الأمومة توجه إليها أرق الترانيم وأعظمها خشوعاً وإخلاصاً، وهي التي أوحت بالصروح الفخمة والتماثيل الرائعة والصور الجميلة والشعر العذب والموسيقى الحلوة وهي التي بعثت المراكب ذات الروعة التي تقوم كل يوم حول ملايين من مذابح الكنائس ومن أجلها يقوم القداس بطقوسه الغامضة الرهيبة التي تسموا بالنفس وترفعها إلى السموات العلى. والاعتراف والتوبة يطهران نفس المذنب التائب الخاشع والصلاة تطمئنه وتقويه والعشاء الرباني تقربه من المسيح قرباناً يبعث في نفسه الرهبة والقداس الأخير يطهره ويعده لدخول الجنة وقلما أخرج دين في رسالته للإنسانية مثل هذه الروعة الفنية.
ولقد كانت الكنيسة من أجمل صورها حين حلت بعقائدها المواسية وطقوسها الساحرة ومبادئ أتباعها الخلقية النبيلة وشجاعة اساقفتها وغيرتهم واستقامتهم، وعدالة محاكم اسقفياتها وطهارتها، حين حلت بهذه كلها في المكان الذي تخلت عنه، حكومة الإمبراطورية فكانت هي الحارس الأكبر للعالم المسيحي للنظام والسلم في العصور المظلمة (حوالي ٥٢٤ - ١٠٧٩م). وأوربا مدينة ببعث الحضارة في الغرب بعد أن أغار البرابرة على إيطاليا وغالة وبريطانيا وأسبانيا إلى الكنيسة أكثر مما هي مدينة بها إلى أية هيئة أخرى مهما كان من شأنها. فقد كان رهبانها هم الذين أصلحوا الأرض البور وكانت الأديرة هي التي تقدم الطعام للفقراء والتعليم للصبيان والمأوى للمسافرين، وكانت مستشفياتها هي التي تعنى بالمرضى والمعوزين. وكانت أديرة النساء هي التي تلجأ إليها الأرامل ومن لا أزواج لهن فتوجه فيهن عواطف الأمومة إلى أغراض اجتماعية سامية ولقد ظلت الراهبات عدة قرون يتعهدن وحدهن بتربية البنات. وإذا كانت الثقافة القديمة لم يطغ عليها ويمح معالمها تيار الجهل والأمية، فما ذلك إلا لأن الرهبان قد نسخوا آلاف المخطوطات واحتفظوا بها وحافظوا على حياة اللغتين