حتى يمكن قيام المجتمع والحضارة. ولهذا استعانت الأسر والدول قبل التاريخ بأجيال طوال بقوة الدين لكي تخفف من غرائز الإنسان الهمجية ووجد الآباء في الدين عوناً لهم على كبح جماح أبنائهم المعاندين وإبعادهم عن الشطط وتعويدهم ضبط النفس، واستعان المربون بالدين فكان لهم وسيلة ذات أثر عظيم في تهذيب الشباب وتعويده النظام والرقة واتخذته الحكومات من أقدم الأزمنة عوناً لها على إقامة صرح النظام الاجتماعي وتخليصه من الأنانية المقطعة لأوصال المجتمع مما طبع عليه الناس من فوضى. ولو أن الدين لم يوجد لابتدعه كبار المشترعين أمثال حمورابي وموسى وليقورج ونزما بمبليوس. لكنهم لم يكونوا في حاجة إلى ابتداعه لأنه ينشأ من تلقاء نفسه ويتجدد للوفاء بحاجات الناس وآمالهم.
وقد ظل الدين المسيحي خلال ألف عام من عهد قسطنطين إلى عهد دانتي يهب الأفراد والدول ما ينطوي عليه من مزايا ويقدمها لهم هبة خالصة، وكان هو نفسه في هذه الأعوام ينمو ويتكون، فجعل من صورة المسيح الفضائل مجسمة يغري بها الهمجية على اصطناع الحضارة وأوجد عقيدة جعلت حياة كل إنسان جزءاً من مسرحية عالمية سامية وأن تكون متواضعة، وأنشأت علاقة قوية ذات خطة بين الإنسان وبين الإله خالقه الذي تحدث إليه في كتبه المنزلية ووضع فيها قانوناً أخلاقياً وجعل الكنيسة مستقراً لتعاليمه وممثلة لسلطانه على هذه الأرض. وأخذت هذه المسرحية الفخمة تنموا عاماً بعد عام، وأخذ القديسون والشهداء يضحون بحياتهم في سبيل عقيدتهم ويضربون بذلك الأمثال لمن يأتي بعدهم من المؤمنين ويورثونهم فضائلهم، وأنشأ الفانون مئات الصور ومئات الآلاف من التحف الفنية يفسرون بها هذه المسرحية ويظهرونها بوضوح لعقول الناس حتى الساذجة منها غير المتعلمة فأضحت مريم العذراء أم المسيح "أينع زهرة في الشعر كله". وكانت هي نموذج الرقة النسوية التي تنسج النساء على منوالها وحنان