الرابع عشر، وإحدى وأربعون سنة من الخامس عشر، وثلاثين سنة من السادس عشر، وهكذا تعاونت الطبيعة وجهل الإنسان، هذان وهما عاملان ثابتان متوسيان من ناحية، مع الحرب والمجاعة من ناحية أخرى، على الحد من استغراق الإنسان في النسل. وكان الموت الأسود شر هذه النوازل، ولعله أنوح ملمة طبيعية تعرض لها الإنسان في عصور التاريخ. ولقد وفد على برفانس وفرنسا من إيطاليا، ولعله جاء مباشرة من الشرق الأدنى بوساطة الجرذان الشرقية التي ترسي على مارسيليا. وذهبت رواية، غير محققة في ناربون، إلى أن ثلاثين ألف شخص ماتوا في هذا الوباء، وفي باريس خمسين ألفاً وفي أوربا خمسة وعشرين مليوناً، وربما كان المجموع "ربع سكان العالم المتحضر" وعجزت مهنة الطب أمامه، فلم تكن تعلم سبب المرض (ولقد اكتشف كيتا زاتو، برسن، باسيليات الطاعون الدملي عام ١٨٩٤)، وكل ما كانت توصي به هو، المعضدات، ومطهرات الجوف، والمنعشات، ونظافة المسكن والجسم، والتبخير ببخار الخل (٧). ورفض عدد قليل من الأطباء والقساوسة علاج المرضى، خوفاً من العدوى، ولكن أكثرهم واجهوا المحنة برجولة، وضحى آلاف من الأطباء ورجال الدين بحياتهم. وكان على قيد الحياة ثمانية وعشرون كاردينالا عام ١٣٤٨ توفي منهم تسعة بعد ذلك بعام واحد، ومن الثمانية والأربعين رئيساً للأساقفة، مات خمسة وعشرون، ومن الخمسة والسبعين والثلثمائة أسقف مات سبعة ومائتان.
وكان للوباء آثاره على جميع نواحي الحياة وطبيعي أن يموت الفقراء، بنسبة أكبر من الأغنياء، فأدى ذلك إلى نقص في العمال، وهجرت آلاف الأفدنة بلا فلاحة، ونفقت ملايين الأنعام. واكتسب العمال قدرة جديدة على المساومة إلى حين، فرفعوا أجورهم، ونفضوا عن كواهلهم كثيراً