للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وليس من شك في تحول فرنسوا من التقوى إلى الشعر ومن علوم الدين إلى السرقة قد أحزن جويوم وأم فيون وكانت باريس تزخر بالخلعاء والبغايا والدجالين والنشالين والشحاذين وحماة العاهرات والقوادين والسكارى، فما كان من الشاب المستهتر إلا أن اتخذ له أصدقاء في كل طائفة، وعمل ديوثاً فترة من الزمان. ولعله حصل من الدين فوق ما يطيق، ولم يسغ الحياة في الدير، فمن العسر بوجه خاص أن يستجيب ابن رجل الدين للوصايا العشر. وفي الخامس من يونيه عام ١٤٥٥ بدأ "قسيس يدعى فيليب شرموي، العراك مع فرنسوا (كما يقول بنفسه)، وقطع شفته بمدية، فما كان من فيون إلا أن أصابه بجرح عميق في فخذه، ولم يمضِ أسبوع حتى كان فيليب قد أسلم الروح وأصبح بطلاً بين رفاقه، وخارجاً على القانون يطارده الشرطة، ففر الشاعر من باريس، وظل حوالي سنة مختفياً في الريف.

وعاد هزيلاً شاحباً، جامد الملامح وخشن البشرة، ساهر العين حذر الشرطة، يحطم الأقفال حيناً والجيوب أحياناً، يستشعر الجوع إلى الطعام والحب. وأصبح عاشقاً لصبيه بورجوازية، احتملته حتى تجد فارساً أخيراً منه، يتغلب عليه، فزاد حبه لها، ولكنه سجل ذكراه بعد ذلك بأنها "سيدتي ذات الأنف الأعوج". وأنشأ حوالي ذلك الوقت (١٤٥٦) "العهد الصغير"، وهو أقصر وصاياه، الشعرية فقد كان عليه أن يفي بديون كثيرة وأن يصلح أخطاء كثيرة أيضاً، ولا يستطيع أن يتنبأ متى يختم حياته على حبل مشنقة. وهو يهجو عشيقته على قلة لحمها، ويبعث بجوربه الطويل إلى روبرت فاليه، "لكي يلبس خليلته رداء أكثر احتشاماً"، وأوصى لبرنيه مارشان "بثلاث حزم من القش أو العشب الجاف، ليضعها فوق الأرض العارية لينام عليها، ويمارس لعبة الحب"، ويمنح حلاقه "أطراف شعري وقصاصاته"، ويترك قلبه، محزوناً شاحباً ميتاً لا إحساس فيه، إلى التي "أبعدت عينها عني".