وأصبحت الأسرة الحاكمة المغولية منذ ذلك الحين نصف وطنية فيما يجري في عروقها من دماء؛ ولقد أعلى رجلاً من أسرة راجبوت حتى نصبه قائداً أعلى لجيشه، كما رفع أحد الراجات إلى منصب كبير وزرائه؛ وكانت أمنيته التي يحلم بها أن يوحد الهند (٩٤).
لم يكن ذا عقل واقعي دقيق له برودة المنطق كما كان قيصر أو نابليون، بل كان ينزع بعاطفته نحو دراسة الميتافيزيقا، ولو أنه خلع عن عرشه لكان من الجائز أن يصبح صوفياً معتزلاً؛ كان لا يكف عن التفكير ولا ينقطع عن اختراع الجديد واقتراح الإصلاح لما هو قائم (٩٥)؛ وكان من عادته مثل هارون الرشيد أن يعس بالليل متنكراً، ثم يعود إلى مأواه وهو جياش الصدر برغبة الإصلاح؛ واستطاع وسط هذه المناشط الكثيرة أن يفسح بعض الوقت لجمع مكتبة عظيمة تتألف كلها من مخطوطات جميلة الخط والنقش، دبجها له نساخون بارعون كانت لهم عنده منزلة الفنانين، فهم في عينه لا يقلون مكانة عن المصورين والمهندسين المعماريين الذين كانوا يزينون ملكه؛ وكان يزدري الطباعة باعتبارها آلية لا تتجلى فيها شخصية الكاتب، ولم يلبث أن استغنى عن العينات المختارة من الرسوم الأوربية المطبوعة التي قدمها له أصدقاؤه من الجزويت؛ ولم تزد مكتبته على أربعة وعشرين ألف كتاب، لكن قيمتها بلغت ما يساوي ثلاثة ملايين وخمسمائة ألف ريال (٩٧) عند أولئك الذين حسبوا أن أمثال هذه الكنوز الروحية يمكن تقديرها بأرقام مادية؛ وأجزل العطاء للشعراء بغير حساب، وقرب أحدهم من نفسه- هو بربال الهندي- تقريباً جعله ذا حظوة كبرى في حاشية قصره، وأخيراً نصبه في الجيش قائداً، فكان من نتيجة ذلك أن قام " بربال " بحملة حربية أظهر فيها عجزاً شديداً، وقتل في جو أبعد ما يكون الجو عن خيال الشعراء (١)
(١) كان "بربال" بغيضاًً لدى المسلمين، ولذا فرح هؤلاء لموته، حتى لقد سجل أحدهم- وهو المؤرخ بادوني- حادثة موته بنشوة وحشية فقال: "إن بربال الذي فر خوفاًً من حياته، قد قتل ودخل جهنم منخرطاًً في صف الكلاب"