في ازدهار الهند وعلو مكانتها؛ لقد كان هذا الملك الشامخ بأنفه حاكماً قديراً، ولئن أهلك أنفساً كثيرة في حروبه الخارجية، فقد هيأ لبلاده جيلاً كاملاً من السلام؛ كتب حاكم بريطاني عظيم لبمباي، هو "مونت ستيوارت إلْفِنْستون" يقول:
إن من ينظر إلى الهند في حالتها الراهنة قد يميل إلى الظن بأن الكتاب الوطنيين إنما يسرفون في وصف ثراء البلاد قديماً؛ لكن المدن المهجورة والقصور الحاوية والقنوات المسدودة التي لا نزال نراها، بما هناك من خزانات كبرى وجسور في وسط الغابات، والطرق المتهدمة والآبار ومحطات القوافل التي كانت على امتداد الطرق الملكية، كل ذلك يؤيد شهادة الرحالة المعاصرين بحيث يميل بنا إلى العقيدة بأن هؤلاء المؤرخين كانوا يقيمون أقوالهم على سند صحيح" (١١٥).
كان "جهان" قد بدأ حكمه بقتل إخوته، لكن فاته أن يقتل أبناءه كذلك فَكُتِب لأحد هؤلاء الأبناء أن يخلعه عن العرش، وذلك هو "أورنجزيب" الذي أثار ثورة سنة ١٦٥٧ م وجاء زاحفاً من الدكن؛ فأمر الشاه- شأنه في هذا شأن داود- أمر قواده أن يهزموا الجيش الثائر، على ألا يقتلوا ابنه إن وجدوا إلى إنقاذ حياته من سبيل؛ لكن "أورنجزيب" غلب جميع الجيوش التي أرسلت لمحاربته، وألقى القبض على أبيه وسجنه في "حصن أجرا" حيث لبث الملك المخلوع تسعة أعوام يعاني مُرَّ العذاب، لم يزره ابنه في سجنه قط، ولم يكن إلى جواره من يرعاه سوى ابنته المخلصة "جهانارا"؛ وكان ينفق أيامه جالساً في "برج الياسمين" مرسلاً بصره عبر "جمنة" إلى حيث ترقد زوجته الحبيبة "ممتاز" في قبرها المزدان بالجواهر.
على أن هذا الابن الذي خلع أباه على هذا النحو القاسي، كان من أعظم القديسين في تاريخ الإسلام، بل ربما كان أميز الأباطرة المغول جميعاً بما كاد يتفرد به من صفات؛ فشيوخ الدين الذين تولوا تنشئته صبغوه بالدين صبغاً حتى لقد فكر هذا الأمير الشاب يوماً في أن ينفض يده من الإمبراطورية