بل من العالم كله، ليعتزل الدنيا راهباً متعبداً؛ ولبث حياته كلها- رغم طغيانه ودهاء سياسته وتوهمه بأن أخلاق لا تكون إلا في مذهبه الديني- لبث حياته كلها رغم ذلك مسلماً ورعاً، يقيم الصلاة وينفق فيها وقتاً طويلاً، ويحفظ القرآن كله، ويجاهد في قتال الكفار؛ وما أكثر ما قضى من ساعات يومه في عبادته، وما قضى من أيام حياته صائماً؛ وكان في معظم الأحيان يخلص في أداء شعائر دينه إخلاصه في الدعوة إليها؛ نعم لقد كان في السياسة بارداً يقدر عواقب الأمور تقديراً دقيقاً، وله قدرة على الكذب الماهر في سبيل بلاده وربه؛ لكنه مع ذلك كله كان أقل المغول قسوة وألطفهم مزاجاً؛ قل القتل في عهده، وكاد يستغني عن اصطناع العقاب في محاكمة المجرمين؛ وكانت شخصيته متسقة الجوانب فتواضع في عزة، وصبر في وجه المعتدي، وهدوء نفس في أوقات المحنة؛ وامتنع عن كل ما يحرمه دينه من ألوان الطعام والشراب وأسباب الترف امتناعاً كان يرقبه فيه ضميره؛ وعلى الرغم من براعته في عزف الموسيقى، أقلع عنها لأنها ضرب من اللذة الحسية والظاهر أنه نفذ ما صمم عليه وهو ألا ينفق على نفسه إلا ما كسبت يداه بالعمل (١١٦) فكأنه كان بمثابة القديس أوغسطين أجلس على العرش.
كان "شاه جهان" قد خصص نصف دخله لترقية العمارة وغيرها من الفنون، أما "أورنجزيب" فلم يعبأ بالفنون، وهدم ما فيها من آثار "الكفر" مدفوعاً بتعصب ديني ساذج، وظل خلال نصف القرن الذي حكم البلاد فيه، يحارب في سبيل محو الديانات كلها من الهند إلا ديانته؛ وأمر عماله في الأقاليم وغيرهم من أتباعه أن يقوضوا كل المعابد التي تتبع الهندوس أو المسيحيين، وأن يحطموا الأصنام جميعاً، وأن يغلقوا مدارس الهندوس بغير استثناء؛ فكان من جرّاء ذلك أنه في عام واحد (١٦٧٩ - ١٦٨٠ م) هدم ستة وستين معبداً في "عنبر" وحدها، وثلاثة وستين معبداً في "شيتور"، ومائة وثلاثة وعشرين معبداً في "أودايبور"(١١٧)، وأقام مسجداً إسلامياً (١١٨) في مكان