ولقد أريد بهذا التشريع بادئ الأمر أن يكون بمثابة الدليل أو الكتاب الصغير الذي يرشد براهمة المانوية هؤلاء إلى أوضاع السلوك الصحيح، لكنه أخذ على التدريج يتطور فيصبح تشريعاً يحدد قواعد السلوك للمجتمع الهندي كله، وعلى الرغم من أن ملوك المسلمين لم يعترفوا به قط، إلا أنه اكتسب كل ما للقانون من قوة داخل حدود نظام الطبقات، وستتبين خصائص هذا التشريع إلى حد ما خلال الصفحات الآتية بما أوردناه فيها من تحليل للمجتمع الهندي وأخلاقه، لكنه على وجه العموم كان يتسم بمظهر خرافي من حيث قبوله لمبدأ المحاكمة بالمحنة (١) وتطبيقه تطبيقاً متزمتاً لقانون العين بالعين والسن بالسن، وإشادته مرة بعد مرة بطبقة البراهمة في فضائلها وحقوقها ونفوذها (٦٢)، وكان من تأثير هذا الكتاب أن زاد زيادة عظيمة من سيطرة نظام الطبقات على المجتمع الهندي.
كان هذا النظام الطبقي قد ازداد تزمتاً وتعقيداً منذ العصر الفيدي، لأن طبيعة النظم الاجتماعية من شأنها أن تزيد تلك النظم صلابة على مر الزمن، ولأن اجتياح الهند- من جهة أخرى- بالشعوب الأجنبية والعقائد الخارجية قد زاد من صلابة نظام الطبقات ليقوم سداً قوياً يحول دون امتزاج دم المسلمين بدم الهنود، فقد كان أساس الطبقات في العصر الفيدي هو اللون، ثم أصبح الأساس في العصور الوسطى الهندية هو المولد، وكان معنى التقسيم الطبقي شيئين،
(١) "الأب ديبوا" صادق على الجملة، على الرغم من عدم عطفه على الهنود، وهو يصور لنا المحن التي كانوا ينزلونها بالمتهمين في عصره (١٨٢٠ م) فيقول: "وهناك أنواع أخرى كثيرة للمحاكمة بالمحن، منها أن يغلي الزيت ممزوجاً بروث البقرة وعلى المتهم إن يدس فيه ذراعه حتى المرفق؛ ومنها محنة الثعبان، وتفصيلها أن يوضع ثعبان من أخطر الثعابين سماًً في سلة مقفلة، ويضعون في السلة خاتماًً أو قطعة من النقود، وعلى المتهم أن يخرج هذه القطعة أو ذلك الخاتم وعيناه معصوبتان؛ فإذا لم يصب جلده بحروق في الحالة الأولى، أو إذا لم يعضه الثعبان في الحالة الثانية، عد ذلك برهان براءته القاطع".