أخرى، فالهنود الأخيار لا يقتلون الحشرات إذ وسعهم ذلك، " وحتى أولئك الذين يتواضعون منهم في طموحهم الخلقي يعاملون الحيوان معاملتهم لأخوة لهم أدنى شأناً، لا معاملتهم لكائنات أحط نوعاً سلطهم الله عليهم"(٤١)، وقد فسرت "كارما" للهنود- من الوجهة الفلسفية- كثيراً من الحقائق التي كانت تكون بغيرها غامضة المعنى أو مجحفة إجحافاً يوغر الصدور؛ فهذه الفوارق الأزلية التي تفرق بين أقدار الناس والتي تخيب آمال الناس منذ الأزل في المساواة والعدل؛ وهذه الشرور في صورها المختلفات التي تسود وجه الأرض وتصبغ بحمرة الدماء مجرى للتاريخ؛ وهذه الآلام التي تدخل حياة الإنسان مع ولادته ثم يصاحبه حتى وفاته؛ كل هذه وهذه وتلك بدت معقولة للهندي إذا ما انعقد في "كارما"؛ ذلك لأن هذه الشرور وهذا الظلم وهذه الفوارق المتدرجة من الخبل العقلي إلى النبوغ، وهذه الدرجات من الفقر والغني، كل هذه نتيجة للحيوات الماضية وهي نتيجة لازمة تترتب على فعل قانون، إن رأيته ظالماً مدى حياة واحدة أو لحظة واحدة، فستراه أعدل ما تكون القوانين في نهاية الأمر كله (١)، فكارما إحدى الوسائل الكثيرة التي ابتكرها الإنسان لنفسه لتعينه على تحمل الشر صابراً، وعلى مواجهة الحياة متفائلاً؛ فالمهمة التي اضطلعت بها معظم الديانات وحاولت أداءها هي أن تفسر الشر وأن تشرح للناس نظاماً كونياً يبرر لهم أن يقبلوا الشر جزءاً منه، قبولاً إلا يكن مليئاً بالبِشْر، فحسبه أن يكون مصحوباً بسكينة الفؤاد، ولما كانت مشكلة الحياة الحقيقية ليست هي آلامها، لكنها الآلام التي تصادف من لا يستحقونها، فإن ديانة الهند تخفف من هذه المأساة البشرية بأن تخلع
(١) الاعتقاد في"كارما" وفي التناسخ هو أعظم عقبة من الوجهة النظرية تحول دون محو نظام الطبقات في الهند، لأن الهندي المتمسك بعقيدته يرى أن الفوارق الطبقية قد تقررت نتيجة لسلوك في حيواتها الماضية، وإنها جزء من تدبير الله، ومن الكفر أن تغير فيما دبر الله.