بعداً ثالثاً إن لم يكن من هذا بد. واهتمامه بالحشود أكبر من أن يتيح له الاهتمام بالأفراد، وهو يجعل كل فلاحيه تقريباً متماثلين، كتلاً غليظة من اللحم. وهو لا يزعم أنه واقعي إلا في المجموع، وهو يضع الكثير من الناس أو الأحداث في لوحة واحدة بحيث يبدو أنه يضحي بالوحدة. ولكنه يقتنص الوحدة اللاشعورية- وحدة قرية، أو حشد، أو موجة من موجات الحياة.
فما الذي يريد أن يقوله؟ أهو ساخر فقط، ضاحك من الإنسان لأنه "فجلة مشعبة" غريبة الشكل، ومن الحياة لأنها اختيال غبي نحو الفناء؟ لقد كان يستمتع بما في رقص الفلاحين من هز عنيف، ويتعاطف مع كدهم، وينظر في مرح متسامح إلى نومهم المخمور. ولكنه لم يفق قط من تأثير بوش. فقد كان يجد لذة ساخرة كتلك التي وجدها ذلك "جيروم" المجرد من التقوى في تصوير الجانب المر من الكوميديا البشرية- المقعدين والمجرمين، المهزومين أو الداعرين، انتصار الموت الذي لا رحمة فيه. ويبدو أنه كان يبحث عن الفلاحين الدميمي الخلقة، يرسمهم رسوماً ساخرة، ولا يسمح لهم أبداً بالابتسام أو الضحك، فإذا أضفى على جلافة وجههم أي تعبير فهو تعبير اللامبالاة الغبية، والحساسية التي محتها لطمات الحياة (١٧). وكان يثيره ويؤلمه ذلك الجمود الذي يحتمل به المحظوظون شقاء الأشقياء، وتلك السرعة والراحة التي ينسى بها الأحياء الأموات. وكان يحزنه منظور الطبيعة الشاسع- تلك السماء الهائلة التي تبدو تحتها كل الأحداث البشرية غارقة في الضآلة، وتلوح الفضيلة والرذيلة، والنمو والانحلال، والشرف والخسة، مضيعة في عبث مترامٍ لا يفرق ولا يميز، والإنسان قد ابتلعه منظر العالم.
ولا ندري أهذه فلسفة بروجل الحقيقية أم أنها دعابة فنه لا أكثر.