يعش بعدهم سوى شهرين، ومات في شاكاو في ديسمبر ١٥٦٤. وكانت آخر كلماته تقريباً "لست أريد أن أكون بولنجرياً ولا كالفيناً ولا بابوبياً، بل مسيحياً فقط"(٥). ولم يكن هناك أشد من هذا خطراً.
أما أن تتحول إيطاليا إلى البروتستنتية فكان بالطبع ضرباً من المحال. فقد كان عامة الشعب هناك برغم عدائهم للأكليروس متعلقين بالدين وإن لم يؤموا الكنائس. كانوا يحبون الاحتفالات والمراسيم التي قدسها مرور الزمن، ويحبون القديسين المعينين أو المعزين، ويحبون العقيدة التي ندر تشككهم فيها، والتي رفعت حياتهم من فقر بيوتهم إلى سمو أعظم الدرامات التي تصورها عقل الإنسان-وهي افتداء الإنسان الساقط بموت إلهه. وأعان خضوع إيطاليا السياسي لأسبانيا المغالية في التدين على إبقاء شبهي الجزيرة كاثوليكيتين. وكانت ثروة البابوية ميراثاً إيطالياً ومصلحة إيطالية راسخة، وأي إيطالي يرى القضاء على هذه المنظمة الجابية للجزية كان يبدو في نظر معظم الإيطاليين مشرفاً على الجنون. وقد اختلفت الطبقات العليا مع البابوية باعتبارها قوة سياسية تتسلط على وسط إيطاليا، ولكنها اعتزت بالكاثوليكية عوناً لا غنى عنه للنظام الاجتماعي والحكومة الحافظة للسلام، وأدركت أن عظمة الفن الإيطالي مرتبطة بالكنيسة بفضل إلهام أساطيرها ومعونة ذهبها. لقد أصبحت الكاثوليكية ذاتها فناً، وطغت عناصرها الحسية على عناصرها النسكية واللاهوتية؛ فالزجاج المعشق، والبخور، والموسيقى، والعمارة، والنحت، والتصوير، وحتى الدراما-هذه كلها كانت في الكنيسة ومن الكنيسة، وبدت في مجموعها المعجز جزءاً لا ينفصل عنها. ولم يكن بفناني إيطاليا وعلمائها حاجة إلى التحول عن الكاثوليكية، لأنهم حولوا الكاثوليكية إلى العلم والفن. وكان المئات بل الألوف من العلماء والفنانين يتمتعون بمعونة الأساقفة والكرادلة والبابوات، وارتقى الكثير من الإنسانيين، وبعض الشكاكين المؤدبين،