مذاهبنا الغربية التي وثقت وثوقاً شديداً بأن "المعرفة قوة" بمثابة أصوات شباب مضى، كان فيه شهوة تضخم له الطبيعة قدرة الإنسان ومستطاعه حتى إذا ما أنهكت قوانا في كفاحنا اليومي ضد الطبيعة التي لا تعبأ بنا، والزمن الذي يناصبنا العداء، ازددنا عندئذ رحابة صدر حين ننظر إلى الفلسفات الشرقية التي توصي بالاستسلام والسلام؛ ومن ثم كان أثر الفكر الهندي على الثقافات الأخرى أشد ما يكون، في العهود التي تتعرض فيها تلك الثقافات لعوامل الضعف والانهيار؛ فلما كانت اليونان تحرز نصراً بعد نصر، لم تصرف إلا قليلاً من سمعها لما يقوله فيثاغورس أو بارمنيدس؛ ثم لما أخذت اليونان في التدهور، ذهب أفلاطون وذهب معه الكهنة الأورفيون مذهب تناسخ الأرواح، وطفق زينون الشرقي يبشر بما أوشك أن يكون استسلاماً للقضاء والقدر، وتسليماً للدهر وصروفه؛ ولما كانت اليونان تحتضر، ارتاد أنصار الأفلاطونية الجديدة والغنوسطيون (الذين يأخذون بإمكان معرفة الله) حياض الهند يعبون من أعماقها؛ والظاهر أن ما أصاب أوروبا من فقر بسقوط روما وفتوح المسلمين للطرق الموصلة بين أوروبا والهند، قد كان حجر عثرة مدى ألف عام، يعرقل تبادل الأفكار بين الشرق والغرب تبادلاً مباشراً؛ لكن لم يكد البريطانيون يثبتون أقدامهم في الهند حتى جعلت كتب اليوبانشاد تحرك الفكر الغربي بإعادة نشرها، أو بترجمتها؛ فتصور فخته مذهباً مثالياً على شبه شديد بمثالية شانكارا (١٣٢) وأوشك شوبنهور أن يدخل في فلسفته مذاهب البوذية واليوبانشاد والفيدانتا، إدخالاً يجعلها جزءاً من فلسفته لا يتجزأ؛ وكانت اليوبانشاد في رأي شلنج وهو في شيخوخته أنضج ما وصل إليه الإنسان من حكمة؛ أما نيتشه فقد خالط بسمارك واليونان أمداً أطول من أن يتيح له الفرصة للعناية بثقافة الهند، ومع ذلك فقد اعتنق آخر الأمر فكرة آثرها على كل فكرة سواها، وهي فكرة ظلت متشبثة بعقله لا تبرحه إلا وهي فكرة دورة الحياة دورة أبدية تظل فيها تعيد ما مضى من مراحل- وما تلك