وهناك أخلد سبنسر إلى حياة الزراعة الهادئة وانصرف إلى الشعر الرقيق. وخلد ذكرى موت سدني بمرثية بليغة ولكنها مطولة عنوانها "أستروفيل"(١٥٨٦)، ثم صقل وطول في ملحمته "فيري كوين" وعبر البحر، وهو ممتلئ حماسة إلى إنجلترا، وقدمه رالي إلى الملكة، فكتب لها إهداء "الأجزاء" الثلاثة الأولى، "لتبقى في ظل خلود شهرتها. "وليضمن الترحيب بالقصيدة صدرها ببضعة أبيات في المديح موجهة إلى كونتيس بمبروك، وليدي كارو، وسير كرستوفر هاتون، ورالي، وبرجلي، ووالسنهام، واللورد داث هنزدن وبكهيرست وجراي وهوارد افنجهام، وارل إسكس ونرثمبرلند وأورمند وكمبرلند. ولما كان بيرجلي يناصب ليستر العداء ويحمل له الأضغان، فانه قال عن سبنسر إنه شاغر خامل، ولكن كثيراً من الناس هللوا له بوصفه أعظم شاعر منذ عهد تشوسر. وتلطفت الملكة فمنحته معاشاً سنوياً قدره خمسون جنيهاً، وتلكأ بيرجلي، بوصفه وزير الخزانة، في دفعه. وكان سبنسر يأمل في شيء أكثر سخاء. فلما خاب أمله عاد أدراجه إلى قصره في إيرلندا ليتابع ملحمته المثالية، وسط الهمجية والكراهية والخوف.
وكانت خطته أن تكون القصيدة في أثني عشر جزءاً، نشر الثلاثة الأولى منها في ١٥٩٠، وثلاثة أجزاء أخر في ١٥٩٦. ولم يذهب إلى أبعد من هذا. ومع هذا فإن الفيري كوين ضعف الإلياذة وثلاثة أمثال "الفردوس المفقود". وقدم كل جزء على أنه قصة رمزية- للقداسة والاعتدال وضبط النفس والعفة والصداقة والعدالة واللياقة والكياسة، وقصد الأجزاء جميعها "أن تصوغ أو تشكل سيداً ماجداً" أو إنساناً نبيلاً ذا خلق فاضل وديع (٣٠)، بتزويده بالأمثلة التي تعين على تشكيله، وكل هذا يتفق مع فكرة سدني في أن الشعر عبارة عن تعاليم أخلاقية تنقلها نماذج متخيلة. وإذ التزم سبنسر جانب الحشمة والوقار، فانه لم يجز لنفسه إلا يضع قطع قليلة شهوانية أو حسية. فهو يلقي نظرة عجلى على "صدر عاجي عار للانقضاض عليه غنيمة باردة (٣١) "، ولكنه لا يذهب إلى أبعد من هذا. وإنه في ستة من الأقسام الرئيسية ليشدو بأعلى أنغام حب الفروسية والشهامة، باعتباره خدمة خالية من الأثرة للسيدات والجميلات.
أما نحن الذين نسينا الفروسية والشهامة، فإننا نضيق ذراعاً بالفرسان وتربكنا المجازات