لم يتيسر هضمها، مكونة من كثير من السذاجة وسرعة التصديق، وكثير من المصادفات والأعراض غير الجوهرية، وكذلك من الأفكار الصبيانية التي تشربناها في أول الأمر (٤٤)". ومن ثم يجدر بنا، منذ البداية، أن نخلي أذهاننا، قدر الطاقة، من أية إنشغالات سابقة وتحيزات وافتراضات، بل يجدر بنا حتى أن نصرف من أفلاطون وأرسطو، ونكتسح من أفكارنا "الأصنام" أو الأوهام الخالدة التي ولدها فينا فرط الحساسية في الحكم على الأشياء أو المعتقدات والتعاليم التقليدية السائدة في مجتمعنا، ويجب أن ننبذ الحيل التي يمليها التفكير لمجرد الرغبة في شيء ما، والحماقات اللفظية للتفكير الغامض، ويجب أن نخلف وراء ظهورنا، كل طرق الاستنباط الفخمة، تلك الطرق التي عرضت أن نستنبط ألفاً من الحقائق الباطنية من بضع بديهيات أو مبادئ قليلة. وليس في العلم قبعة سحرية، وكل ما يؤخذ من القبعة لخدمتنا يجب أن يوضع أولاً عن طريق الملاحظة أو التجربة. ولكن لا يقصد هنا مجرد الملاحظة العابرة، أو "السرد البسيط" للمعطيات، ولكن "الخبرة .... المطلوبة للتجربة". وعلى هذا نجد أن بيكون الذي غالباً ما انتقص من قدره على أنه يتجاهل المنهج الحقيقي للعلم، يتقدم ليصف المنهج الفعلي للعلم الحديث:
إن المنهج الصحيح للاختبار، يشعل النور أولاً (بالافتراض)، ثم بواسطة هذا الضوء ينير الطريق، بادئاً بالاختبار ترتيباً سليماً. ومنه يستنتج بديهيات "الثمار الأولى"، (النتائج المؤقتة) ومن البديهيات الراسخة تبدأ ثانية تجارب جديدة … إن التجربة نفسها هي التي ستقرر وتحكم (٤٥).
ومهما يكن من أمر فإن بيكون كان على حذر من الفرضيات. حيث كانت في الكثير الغالب توحي بها التقاليد أو التحيز أو الرغبة، أي توحي بها (مرة أخرى) "الأصنام". فكان يرتاب في أي نهج تقليدي تصطفي الفرضية فيه، قصداً أو عن غير قصد من التجريب معطيات مثبتة أو مؤكدة لها، وتفسر تفسيراً خاطئاً أو تتعامى عن الشواهد العكسية أو المضادة. وتجنباً للوقوع في هذا الشرك، اقترح بيكون استقراء شاقاً، بتجميع كل الحقائق الوثيق الصلة بالمسألة، وتحليل هذه الحقائق ومقارنتها