للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الهدايا عليهم؛ ويكتب وصيته، وينبذ الفروسية الطوافة الباحثة عن المغامرات، ويدع روحه تنحسر انحسارا شديدا. ويعود سانشو إلى اسرته؛ ويفلح حديقته قانعا قناعة رجل خير من الدنيا ما يكفي ليجعله عارفا بقدر بيته. وفي النهاية يلوح أن هذه الواقعية الطيبة تنتصر على مثالية مولاء المغرقة في الأوهام برغم سماحتها. ولكن الأمر في حقيقته غير هذا. فروح الفارس هي صاحبة الكلمة الأخيرة في القبرية التي أوصى بأن تكتب له. «إذا كنت لم أحقق جلائل الأعمال فإنني مت في سبيلها». وهكذا يتبين أن الواقعي يعيش إلى أن يدركه الموت؛ ولكن المثالي يبدأ عندها الحياة.

ونشر سرفانتس في السنة التي بقيت له في أجله ثماني تمثيليات، ولم يؤيد الزمن تقديره لها، ولكنه قدر تقديرا عظيما «لانومانسيا» ن وهي قصيدة تمثيلية فيها قوة وفيها جمال، تحي ذكرى مقاومة تلك المدينة الأسبانية للحصار الروماني (١٣٣ ق. م). وكان له كفارسه وهمه الذي يسنده؛ فظن أن الأجيال القادمة ستكرمه أولاً لتمثيلياته، وتكلم في غيرة لا تليق به وإن غفرناها له عن لوبي دي فيجا الذي وفق توفيقاً هائلاً، ثم كتب وهو يحتضر تقريباً، قصة أخرى من قصصه بعد أن هزأ بأكثر الروايات الغرامية «برسيليس وسجموندا». وقبل أن يموت بأربعة أيام أهداها إلى كونت ليمور قائلا:

«مسحت بالأمس المسحة المقدسة الأخيرة، واليوم أخط هذا الإهداء، ليس في الوقت متسع، وعذابي يزيد، والآمال تتضاءل … فوداعاً للمزاح إذن، وداعاً فكاهاتي البهيجة، وداعاً أصدقائي المرحين، لأنني أشعر بأنني أموت، ولا أمنية لي إلا أن أراكم سعداء في الحياة الأخرى (٣٣).

ومات في ٢٣ ابريل ١٦١٦ (١).


(١) في الظاهر في نفس اليوم الذي مات فيه شكسبير. وكانت إنجلترا لا تزال تستعمل التقويم اليوناني، أما حسب التقويم الجريجوري الذي أخذت به اسبانيا قبل ذلك بموت شكسبير وقع في ٣ مايو ١٦١٦.