المحمي؛ ذلك أن الانتقال من سوق المدينة إلى سوق الأمة قوض هذه النقابات والكومونات، وتطلب التشريع المركزي لا المحلي (١). ولعل العقول التي تجمدت في الأوضاع الحاضرة لا ترى في السلطة الملكية المطلقة التي نشرها ريشليو غير استبدادية رجعية؛ أما في رأي التاريخ، وفي رأي الكثرة الغالبة من الفرنسيين في القرن السابع عشر. فإنها كانت تقدماً حرر البلاد من الطغيان الاقطاعي إلى الحكم الموحد. لم تكن فرنسا قد نضجت بعد للديمقراطية، فأكثر سكانها مفتقرون إلى الغذاء الطيب والكساء الجيد، أميون، رانت على عقولهم الخرافة وتوحشت نفوسهم بفعل التعصب للعقيدة. وكانت المدن يهيمن عليها رجال الأعمال الذين لا يستطيعون التفكير إلا في كسبهم او خسارتهم، ولم يكن هؤلاء الرجال، الذين عرقلت الامتيازات الاقطاعية كل خطوة من خطواتهم، ميالين إلى الاتحاد مع صغار النبلاء كما حدث في إنجلترا لإقامة برلمان يقف في وجه السلطة الملكية. ولم تكن «البرلمانات» الفرنسية برلمانات تمثيلية تشريعية، إنما كانت محاكم عليا غذتها السوابق ورسختها، ولم تكن منتخبة من الشعب، وقد غدت قلاعاً للمحافظة. وحبذت الطبقات الوسطى، ومهرة الصناع، والفلاحون، سلطة الملك المطلقة بوصفها الحماية الوحيدة التي يرونها ضد سلطة النبلاء المطلقة.
في عام ١٦٢٦ أصدر ريشليو باسم الملك مرسوماً طعن في الصميم، فقد أمر بهدم جميع القلاع إلا ما كان منها على الحدود، وحظر تحصين المساكن الخاصة في المستقبل. وفي نفس العام (بعد أن مات أخوه الأكبر منه سناً في مبارزة) اعتبر المبارزة جريمة كبرى، فلما تبارز مونمورنسي بوتفيل والكونت دي شابيل برغم هذا الأمر أعدمهما. وقد اعترف بأنه «يحس كدراً شديداً في روحه» لهذا الاجراء، ولكنه قال لمولاه
(١) مثل هذا التطور أضعف «حقوق الولايات» في الولايات المتحدة الأمريكية في القرن العشرين.