اختطفهن الدين أسكتت حزنها حتى كتبت قبريتها. وفي جل من الإباحية الجنسية والحديث الجامح أشاعت من حولها جواً من الأدب واللياقة. وأصبحت «سلامة الذوق» جواز الدخول لصالونها. وكان القواد والشعراء يتركون سيوفهم ورماحهم في البهو، وخفف الأدب من حدة الخلافات، وازدهر النقاش وأقصى الجدل العنيف.
وأخيراً أسرف القوم في هذا التهذيب. لقد رسمت المركيزة قانوناً يتوخى الدقة في القول والفعل، ولكن الذين طبقوه في تزمت سموا «المتحذلقين» و «المتحذلقات»، وفي عام ١٦٥٩ حين كانت المركيزة قد اعتزلت وأصبحت وحيدة، انقض فولتير على هذه الرواسب الغربية المتخلفة من فنها وقضى عليها بسخريته القضاء المبرم. ولكن حتى الإسراف كان له نفعه، فهؤلاء «المتحذلقات» ساعدن على جلاء معنى الألفاظ والعبارات ومدلولها، وتنقية اللغة من الإقليمية، والنحو الرديء والتقعر، هنا بذرة الأكاديمية الفرنسية. وفي الأوتيل درامبوييه طور ماليرب وكونرار وفوجلا قواعد الذوق الأدبي التي أفضت إلى بوالو والعصر الكلاسيكي. وقد ساهمت «المتحذلقات» في ذلك التحليل للعواطف الذي أطال الروايات الغرامية وفتن به ديكارت وسبينوزا، وساعدن على توشية علاقات الجنسين باستراتيجية الانسحاب والتمنع، وما يتبعها من تصور الكنز الرواغ تصوراً مثالياً مما أفضى إلى الحب الرومانسي. وبفضل هذا الصالون وما جاء بعده من صالونات أصبح التاريخ الفرنسي أكثر منه في أي وقت مضى ثنائي الجنس. وارتفع مقام النساء، وازداد أثرهن في الأدب واللغة والسياسة والفن. وعظم احترام المعرفة والفكر. وانتشر الاحساس بالجمال.
ولكن أكانت الصالونات والأكاديمية جاعلة رابليه مستحيلاً؟ أكانت موصدة العقل الفرنسي أمام فسيولوجية مونتيني المرحة، وأخلاقياته السمحة، وحذلقته المتزايدة؟ أم كانت موجهة هذين العبقريين قسراً ورافعة إياهما إلى فن أكثر رهافة وعلواً؟.