وفي "رسائل " سنيكا استطاع أن يتذوق رواقية لطيفة صيغت في عبارات رخيمة؛ هذان (ربما فيهما كتاب بلوتارخ "موراليا ") كانا أحب المؤلفين اليه، "منهما أستقي مائي كما فعلت الدنايديات، وأملأ دون توقف حالما يفرغ الماء (٤٧) … والألفة التي تمت بيني وبينهما، والعون الذي يمدانني به في شيخوختي، وكتابي الذي لم أصغه إلا مما غنت منهما، كل أولئك يلزمني صيانة شرفهما (٤٨).
وهو لا يستشهد بالكتاب المقدس أبداً (ربما لأنه مشهور جداً)، وإن اقتبس مراراً من القديس أوغسطين. وهو في الاغلب يؤثر القدامى على المحدثين، والفلاسفة على الآباء المسيحيين. كان "إنساني " الفلسفة بقدر ما أحب آداب اليونان والرومان وتاريخهم، ولكنه لم يكن عابداً أعمى للكلاسيكيات والمخطوطات والمحفوظات، ورأيه في أرسطو أنه سطحي، وفي شيشرون أنه ثرثار دعي. ولم يكن مطلعاً كل الاطلاع على آثار اليونان، ولكنه استشهد بالشعراء اللاتين في تبحر طواف ألم حتى بواحد من أخص ابجرامات مارشال. وقد أعجب بفيرجل، ولكنه فضل عليه لوكريتيوس. وقرأ "الأقوال المأثورة " لأرزم في نهم. وكان في مقالاته الأولى متحذلقاً، يرصع كلامه بالعبارات الكلاسيكية المعادة. ومثل هذه الاقتباسات كانت تتفق وأسلوب العصر، وقد استطاب القراء ممن لم تسعفهم قدراتهم على قراءة الأصول هذه النماذج باعتبارها نوافذ صغيرة يلمحون منها العالم القديم، وشكا بعضهم من أنه لم يستكثر منها (٤٩). ولكن من كل سرقاته الصغيرة خرج مونتيني هو هو على نحو فذ، ضاحكاً من الحذلقة، محدداً فكره وكلامه. فهو في ظاهره أشبه بالمقص واللصوق، ولكن مذاقه طيب كطعام الآلهة.