للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ففي بواكير تفكيره الجريئة اعتنق الواقية. إن المسيحية التي تفرقت شيعاً يقتل فيها الناس أخوتهم، ولطخت نفسها بدم الحرب والمذابح، قد اخفقت بجلاء في أن تعطي الإنسان قانوناً خلقياً قادراً على ضبط غرائزه، لذلك اتجه مونتيني إلى الفلسفة ملتمساً مبدأ خلقياً طبيعياً، وفضيلة لا ترتبط بقيام العقائد الدينية وسقوطها. وبد له أن الرواقية قريبة من هذا المثل الأعلى، فهي على الأقل شكلت بعضاً من أعظم الرجال في العصور القديمة. وجعلها مونتيني مثله الأعلى حيناً، فهو مدرب إرادته على التحكم في نفسه، وهو صادف عن كل العواطف التي تكدر سلامة سلوكه أو هدوء عقله، وهو مواجه صروف الدهر بجأش رابط، متقبل الموت ذاته على أنه نهاية طبيعية مغتفرة.

وبقي في عرق رواقي إلى النهاية، ولكن روحه الجياشة وجدت بعد قليل فلسفة أخرى تبرر ذاتها. لقد تمرد على رواقية تبشر باتباع "الطبيعة " وتحاول مع ذلك قمع الطبيعة في الإنسان، وقد فسر "الطبيعة " من خلال طبيعته هو، وقرر أن يتبع رغباته الطبيعية، ما دامت لاتحدث أذى محسوساً. وسرّه أن يجد أبيقور مدافعاً عاقلاً عن المتع السليمة، لا شهوانياً رخيصاً، وأدهشه أن يكتشف قدراً كبيراً من الحكمة والعظة في لوكريتيوس. فأعلن الآن في حماسة شرعية اللذة. أما الخطيئة الوحيدة التي تبنيها فهي الإفراط. " ان الإفراط هو الطاعون الذي يفتك باللذة، والاعتدال ليس سوط اللذة، بل الملطف لها (٦٢) ".

ومن تذبذب آرائه، ومن انحطاط المسيحية المعاصرة في فرنسا، انتهى إلى الشكوكية التي اصطبغ بها أكثر فلسفته بعد ذلك. وكان أبوه قد ثأر بكتاب "اللاهوت الطبيعي " الذي ألفه اللاهوتي التولوزي ريمون سبوند (مات ١٤٣٧؟) والذي واصل جهد السكولستيين النبيل في البرهنة على معقولية المسيحية. وطلب الأب إلى ابنه أن يترجم البحث، نفعل، ونشر الترجمة (١٥٦٩). واستنار به السنيون الفرنسيون، ولكن بعض