وقد أحزنه أنه عاش نصف حياته خلال تدمير فرنسا (١٠٣)، "في جيل شديد الفساد وزمان مغرق في الجهل ""اقرأ كل القصص القديمة، ما لم تكن من الفواجع، فلن تجد ما يعدل تلك التي نراها تمارس كل يوم (١٠٤) ". إنه لم يتخذ موقف الحياد في الصراع الدائر حول فرنسا، ولكن "ميلي لم ينسى لا صفات خصومنا المحمودة، ولا الصفات المعيبة التي وصمت من أؤيدهم (١٠٥) ". وهو يأبى أن يحمل بندقية، ولكن يجرد قلمه لمناصرة جماعة "السياسيين "، هؤلاء الكاثوليك المؤثرين للسلام والذين نادوا بقدر من التوفيق مع الهيجونوت. وقد امتدح ميشيل دلوبيتال لاعتداله الإنساني البعيد النظر، واغتبط حين تقدم صديقه هنري نافار إلى النصر على مبادئ لوبيتال. لقد كان مونتيني أعظم الفرنسيين تحضراً في ذلك العصر الهمجي.
هـ- الحجر الدوار
لقد ضايقه حصى المثانة أكثر من حروب فرنسا. ففي يونيو ١٥٨٠، عقب نشر أول طبعة من "مقالاته "، خرج في رحلة طويلة في أوربا الغربية، من جهة ليرى الدنيا، ومن جهة ليزور ينابيع المياه الطيبة أملاً في تلطيف "المغص "(كما سماه) الذي كان يعطله بالألم المرة بعد المرة. وترك زوجته لتعنى بشؤون الضيعة، ولكنه اصطحب معه أخاً أصغر، وزوج أخت يسمى البارون استيساك وسكرتيراً أملاه شطراً من يوميته في الرحلة، فإذا أضفنا بطانة من الخدم وسائقي البغال، لم نعد نعجب لفقر هذه المذكرات الفكري. لقد قصد بها الذكرى أكثر مما قصد بها النشر، فأخفاها مونتيني في صندوق بعد رجوعه، حيث اكتشفت بعد أن انقضى على موته ١٧٨ عاما.
وقصدت الجماعة أولاً باريس، حيث قدم المؤلف الفخور نسخة من مقالاته لهنري الثالث، ثم انطلقت على مراحل مريحة إلى بلومبيير حيث أخذ مونتيني نفسه يشرب نصف جالون من المياه الطيبة كل يوم طوال