للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

كما تسرب إليه كذلك شيء من فكرة نيقولا (من كوزا) عن كون لا نهائي ليس له مركز أو محيط، تنفخ فيه الحياة روح واحدة. وأعجب بالتصوف الطبي الثائر عند باراسلسوس وبالرمزية الروحية، وبوسائل تقوية الذاكرة عند ريموندللي، وبفلسفة كورنيليوسي أجريبا الغامضة. وعمل كل هذا على تشكيل برونو كما أشعل فيه النار البغض لأرسطو وللفلسفة النصرانية في العصور الوسطى (السكولاستية) ولتوماس أكويناس. ولكن بونو كان في دير الدومنيكان وتوماس أكويناس هو رائد الفكر عندهم.

ولم يكن بد من أن يزعج الراهب الشاب رؤساءه بالاعتراضات والأسئلة والنظريات. أضف إلى ذلك أن حماسة الجنس كانت تضطرم بين جنبيه، واعترف فيما بعد بأن كل ثلوج القوقاز ما كانت لتنقع غلته أو تطفئ شهوته، وأن ثمة علاقة دقيقة بين يقظة الجنس ويقظة العقل. وفي ١٥٧٢ رسم كاهناً، ولكن الشكوك ظلت تثور بين جوانحه وتلهبه خفية. كيف يمكن أن يكون هناك ثلاثة في واحد هو الله سبحانه وتعالى؟ كيف يتسنى لكاهن مهما كانت مرتبته أن يحول الخبز والخمر إلى جسد يسوع المسيح ودمه؟ وبعد رسامته، عنفه رؤساؤه مرتين تعنيفاً رسمياً. وفي ١٥٧٦، بعد أن قضى أحد عشر عاماً من الرهبنة، فر فجأة من الدير، وتوارى عن الأنظار لبعض الوقت في روما. وخلع رداء الرهبنة، وعاد إلى اسمه الذي عمد به، والتمس الأمان والتستر في الاشتغال بالتعليم في مدرسة للبنين في نولي بالقرب من جنوه.

وهكذا بدأت ست عشرة سنة من التجوال، سرى فيها القلق والأرق في جسمه جنباً إلى جنب مع التردد والتذبذب في عقله. وبعد أربعة أشهر قضاها في نولي، انتقل إلى سافونا، ثم إلى تورين، وإلى البندقية ثم إلى بادوا. وعاد فارتدى ثانية ثوب الراهب الدومنيكاني ليحظى بكرم الوفادة في الأديار. ثم سار إلى برسكيا، وإلى برجامو، وعبر جبال الألب إلى شامبري حيث أستقبله