كانت تعتلج بين جنبيه لقد كره ضجيج باريس وثرثرتها، ولكن لم تقلقه الحركة النشيطة التي تلطفها القنوات-في أمستردام، وهو يقول "هناك، وسط الجموع المكتظة من شعب عظيم نشيط، استطعت أن أعيش وحيداً منعزلاً، وكأني في صحراء نائية (٨٢) ". وربما كانت رغبته في أن يتوارى عن الأنظار ويخفي اهتماماته هي دفعته إلى تغيير أماكن إقامته أربعاً وعشرين مرة في السنوات العشرين التالية، من فرانكر إلى أمستردام إلى دنفتر، إلى أمستردام إلى أوترخت، ثم إلى ليدن، ولكن بالقرب من جامعة أو مكتبة عادة. ومكنه دخله من الاستمتاع بطيبات الحياة الاجتماعية في قصر صغير مع عدد من الخدم. وامتنع عن الزواج ولكنه اتخذ خليلة (١٦٣٤) أنجبت له طفلة. وإنا لنسر إذ نسمع أن الروح الإنسانية تجلت فيه حين بكى الطفلة بعد موتها في الخامسة من عمرها. وقد نحا في الصواب إذا ظنناه فاتراً لا تحركه الأحداث الدنيوية، ولسوف نجد أنه يبرر كثيراً من الأهواء والمشاعر التي يشجبها رجال الأخلاق عادة. وما كان هو نفسه ليتجرد منها، فهو عرضة للزهو والغضب والغرور (٨٣).
لقد بذل ديكارت جهداً جباراً لتحقيق هدفه. أنظر إلى ما ألزم نفسه بدراسته الرياضيات، الفيزياء، الفلك، التشريح، الفسيولوجيا، علم النفس، ميتافيزيقا، نظرية المعرفة، الأخلاق، اللاهوت. فمن ذا الذي يجرؤ اليوم على أن يجول بين هذا كله؟. ومن ثم طمع في العزلة والاحتجاب عن الأنظار، وأجرى التجارب والمعادلات والرسوم البيانية. وقدر فرص تجنبه محكمة التفتيش أو تهدئتها، وحاول أن يهيئ لفلسفته منهجاً رياضياً. ولحياته منهجاً فلسفياً.
ومن أين يبدأ؟ إنه في "مقال في المنهج (١) "، وهو الكتاب الفذ الذي يعتبر
(١) كتبه ١٦٢٩، ونشر في ١٦٣٧ في مجلد يتضمن كذلك بحوثاً في الهندسة والانكسار والشهب، ثم أعقبه في ١٦٤١ كتاب "تأملات في الفلسفة الأولية"، ثم كتاب "مبادئ الفلسفة" في ١٦٤٤ وجاء بعده "رسالة في انفعالات النفس" في ١٦٥٠، "دراسة الإنسان" ١٦٦٢.