وكان مما حمله على الانتقال إلى باريس مع جاكلين أن يجد علاجاً طبياً أفضل، وتحسنت صحته، ولكن جهازه العصبي كان قد لحق به أذى مستديم. فأصبح منذ ذلك الحين عرضة لأوهام ازداد عمقها على الأيام حتى أثرت في خلقه وفلسفته، فبات سريع الانفعال، فريسة لنوبات من الغضب المتكبر العاتي، وقل أن أشرق وجهه بابتسامة (٢٣).
وكان أبوه طيلة حياته كاثوليكياً تقياً بل صارماً وسط شواغله العلمية، وقد علم أبناءه أن الإيمان الديني أثمن ما يملكون، وأنه شيء بعيد كل البعد عن متناول أو عن حكم قوى التفكير الضعيفة التي يملكها البشر. وفي روان أصيب الأب بجرح خطير فعالجه طبيب جانسني بنجاح، ومن هذا الاتصال اتخذ إيمان الأسرة مسحة جانسنية، فلما انتقل بليزوجاكلين إلى العاصمة كثر اختلافهما إلى القداس في البور- رويال- د- باري، ورغبت جاكلين في دخول الدير راهبة، ولكن أباها لم يستطع أن يروض نفسه على السماح لها بالخروج من حياته اليومية، ولكنه مات عام ١٦٥١، وما لبثت جاكلين أن ترهبت في البور- رويال- دي- شان، بعد أن حاول أخوها عبثاً أن يثنيها عن عزمها.
وتنازعا حيناً على تقسيم ميراثهما، فلما سوي النزاع وجد بليز نفسه رجلاً غنياً حراً- وتلك حال مجافية لحياة التقوى، فاتخذ لنفسه بيتاً فاخر الأثاث، واستكثر من الخدم، وجاب باريس في مركبة تجرها خيول أربعة أو ستة (٢٤). وأعطاه شفاءه المؤقت شعوراً خداعاً بالنشاط والخفة حرفه من التقوى إلى اللذة. وعلينا ألا ننسه على تلك السنوات القليلة التي قضاها "في العالم"(١٦٤٨ - ٥٤)، يستمتع بصحبة ظرفاء باريس وألعابها وحسانها، ويطارد في برهة مثيرة بأوفرن سيدة ذات جمال وثقافة، وصفها بـ"سافو الريف (٢٥) ". وحوالي هذه الفترة كتب "أحاديث في آلام الحب" ويلوح أنه فكر في الزواج- الذي سيصفه في تاريخ لاحق بأنه "أحط ظروف الحياة المباحة لمسيحي (٢٦) ". وكان بعض أصحابه