ونظرة إلى صورة واحدة رسمها جان فرميرا وسمها "رأس فتاة"(٢١) تكشف عن عالم وفن يكادان يناقضان عالم ستين وفنه. وهذه اللؤلؤة التي يفوق ثمنها اللآلئ بيعت في المزاد عام ١٨٨٢ بجولدنين ونصف، ويقدر ناقد قدير في أيامنا هذه أنها "واحدة من اثنتي عشرة صورة هي أروع صور العالم (٢٢) " وواضح أن الفتاة من بيت طيب وأسرة كريمة، عيناها خاليتان من الخوف، لا يخشاهما حتى دهش الشباب الطبيعي، فهي سعيدة في هدوء، متيقظة لموسيقى الحياة؛ وقد قدمها الفنان لنا بصنعة دقيقة في اللون والخط والضوء تجعل من الفرشاة أداة مدهشة للفهم والتعاطف.
وقد ولد فرمير في ديلفت عام ١٦٣٢؛ وعاش هناك على قدر علمنا طوال حياته ومات فيها (١٦٧٥) بالغاً الثالثة والأربعين، وكاد يكون معاصراً لسبينوزا تماماً (١٦٣٢ - ٧٧). تزوج في العشرين، وأنجب ثمانية أطفال، وكان يتقاضى ثمناً طيباً على صوره، ولكنه عكف عليها في عناية مستنفدة للوقت، وأنفق المال الكثير على شراء الصور، حتى أنه مات مديناً، واضطرت أرملته إلى التماس المعونة من محكمة التفاليس. غير أن الأربع والثلاثين صورة التي بقيت من صوره توحي بجو من رفاهية الطبقة الوسطى. وتظهره إحداها (٢٣) في مرسمه لابساً طاقية رقيقة خفيفة، "وجركينة" متعددة الألوان، وجوارب طويلة متجعدة ولكنها حريرية، وقد انتفخ ردفاه من النعمة. ولا ريب في أنه سكن حياً راقياً في ديلفت، ربما في مشارفها حيث استطاع أن يلقي "نظرة على ديلفت (٢٤) " وفي هذه الصورة الشهيرة نحس بحبه الجم بموطنه. ويبدو أنه راض نفسه على البقاء في بيته بقناعة أكثر مما نلحظه في مصوري زماننا. فحب البيت يتجلى في أكثر التصوير الهولندي، ولكن البيت في فن فرمير يصبح معبداً صغيراً، والزوجة معتزة بالخدمات التي تؤديها. وفي لوحته "المسيح مع مريم ومرثا"(٢٥) تشارك مرثا مريم في الجلوس على المنصة. ولم تعد نساؤه تلك الحزم الثقيلة من اللحم التي نراها أحياناً في الفن الهولندي، ففيهن شيء