وقد أعرب قبل ذلك بزمن طويل عن هدفه في خطاب تاريخه ١٨ يناير ١٧٣٩:" أن هدفي الأهم ليس التاريخ السياسي والحربي، بل تاريخ الآداب والفنون، تاريخ التجارة، تاريخ الحضارة - وبعبارة موجزة، تاريخ العقل الإنساني. "وأعرب عنه إعراباً أفضل حتى من هذا خطاب كتبه لتييريو في ١٧٣٦. يقول:
حين طلبت حكايات ونوادر عن عصر لويس الرابع عشر لم أكن أقصد الملك ذاته بقدر ما أقصد الآداب والفنون التي ازدهرت في عهده. وإني لأوثر تفاصيل عن راسين وبوالو، وكينو ولولى، وموليير، ولوبرون، وبوسويه، وبوسان، وديكارت، وغيرهم، لاعن معركة ستنكركي. لم يبق من أولئك الذين قادوا الجيوش والأساطيل إلا اسمهم، ولا ثمر بجنيه النوع الإنساني من مائة معركة كسبت، أما الرجال العظماء الذين ذكرتهم فقد جهزوا مباهج صافية باقية لأجيال لم تولد. فقناة تربط بين بحرين، أو لوحة بريشة بوسان، أو مأساة رائعة، أو حقيقة يماط عنها اللثام، هذه كلها أشياء أثمن ألف مرة من جميع حوليات البلاط، وكل قصص الحرب. وأنت تعلم أن العظماء من الرجال هم الأوائل في نظري، أما "الأبطال" فهم الأواخر. والعظماء عندي هم كل الذين بزوا غيرهم في النافع المبهج. أما الذين يخرجون الأقطار فليسوا أكثر من أبطال (١٠٤).
وربما رفع فولتير الأبطال العسكريين من مكانهم في المؤخرة إذا أنقذت انتصاراتهم الحضارة من الهمجية؛ ولكن كان من الطبيعي أن يجد الفيلسوف الذي لم يعرف سلاحاً غير الألفاظ متعة في رفع اضرابه إلى مكان مرموق، واسمه خير بيان لنظريته لأنه لم يزل بعد قرنين من الزمان أبرز الأسماء في ذكرنا لعصره. وكانت نيته في الأصل أن يخصص الكتاب برمته التاريخ الثقافي. ثم أشارت عليه مدام دشاتليه بكتابة "تاريخ عام" للأمم؛ وعليه فقد ألف فصولا في السياسة، والحرب، والبلاط، ليجعل المجلد تتمة متجانسة لكتاب أكبر عنوانه "مقال في التاريخ العام" كان يتخلف تحت قلمه. ولعل هذا هو السبب في أن التاريخ الثقافي غير مندمج في بقية المجلد، فالنصف الأول من الكتاب مخصص للتاريخ السياسي والحربي، ثم تأتى أقسام