خليط مشوش من الخرافة والحرية جاءنا من ألمانيا في القرن السادس عشر. ولما كانت أمتنا وقرننا قد استنارا بطريقة متباينة كل التباين، فإنهما سيسيران إلى حيث ينبغي لهما أن يسيرا: سيطردان رجال الدين، ويلغيان مهنة القساوسة، ويتخلصان من كل الرحى وكل الأسرار الغامضة … فلا يتحدث المرء في مصلحة رجال الدين ولا يساندهم في دوائر المجتمع وإلا كان موضع سخرية واستهزاء، وأعتبر جاسوساً لمحاكم التفتيش. ويشير القساوسة إلى أنه في هذا العام نقص عدد أعضاء الجماعات الدينية بمقدار الثلث، وهجر الناس الكلية اليسوعية، وانسحب ١٢٠ راهباً من هؤلاء الرهبان الذين ساءت سمعتهم إلى حد كبير (١١).
وكان ثمة تأثيرات فكرية أخرى أضعفت عقيدة العصور الوسطى الدينية. وأنضم الفلاسفة إلى أصحاب المذهب الحافظ (الأرثوذكسي) في رفض سبينوزا، لأن هذا اليهودي الكبير دمغ بأنه ملحد، وكان من الخطر التحدث عنه دون اتهامه، كما حرص هيوم وفولتير على أن يفعلا. ولكنهم كانوا يقرءون سبينوزا سراً، وكانت "رسالته اللاهوتية السياسية" تثير نقد الأسفار المقدسة. وشرح كونت بولانفيليير سبينوزا بحجة تفنيده. إن هيوم الذي تأثر بفرنسا هو نفسه، كان يؤثر فيها كذلك، وكان البناؤون الأحرار (الماسونيون) يؤسسون لهم مراكز في فرنسا، حيث كانوا يمارسون سراً هرطقتهم الربوبية. وكانت الكشوف الجغرافية والتاريخ والدراسة المقارنة للأديان تضيف ناراً إلى البوتقة التي يجرى فيها اختبار المسيحية بما لم يعهد له مثيل قط من قبل. وكان كل علم من العلوم في نموه وتقدمه يزيد من درجة احترام العقل، ومن الإيمان بقانون كوني، ومن عدم الإيمان بالمعجزات، وبالذات بأعظمها شيوعياً وانتشاراً، ألا وهي تحويل خمسين ألف كاهن يومياً الخبز والخمر إلى جسم المسيح ودمه.
وعملت القوى الاجتماعية على انحلال العقيدة. وكان كل ازدياد في الثروة يعجل في التسابق على اللذة والمتعة، كما كان يجعل القيود على الأخلاق المسيحية أكثر إزعاجاً يوماً بعد يوم، في باريس التي أحتفظ فيها أكثر الملوك مسيحية بمجموعة من الخليلات، والتي احتلت فيها مدام دي بمبادور مكان السيدة