الأسرة وقناعتها. نستطيع أن نطلق دعاوى الفلسفة ومسالكها المسدودة، ونعود إلى إيمان ديني يشد أزرنا حين نواجه آلام الموت".
ونحن نحس اليوم شيئاً من التكلف في هذا السخط البار بعد أن سمعنا هذا كله مائة مرة. فلسنا على ثقة من أن الشرور التي وصفها روسو تنجم عن الأنظمة الفاسدة أكثر مما تنجم عن طبيعة البشر؛ وعلى أية حال فالطبيعة البشرية هي التي صنعت الأنظمة. ويوم كتب جان-جاك "مقاله" الثاني كانت الإشادة بذلك "الهمجي اللطيف المعشر، المتدفق العاطفة" قد بلغت ذروتها. ففي ١٦٤٠ كان ولتر هاموند قد نشر كتيباً "يثبت أن أهل مدغشقر أسعد شعوب الأرض (١٢٥)". وبدا أن القصص التي رواها اليسوعيون عن هنود هورون وإيركوا مصداق للصورة التي رسمها الروائي ديفو لخادم روينصن كروزو اللطيف "فرايداي". أما فولتير فكان يسخر عموماً من أسطورة الجمجي الشريف، ولكن استخدمها بمرح في قصته "الساذج" وداعبها يدور في قصته "تذييل الرحلة بوجانفيل" ولكن هلفينيوس هزأ بإشادة روسو بالهمجي مثلاً أعلى (١٢٦)، وزعم دوكلو-رغم أنه كان صديقاً وفياً لجان-جاك-أن "الهمج هم الذين تستشري بينهم الجريمة، وطفولة أمة ما ليست عصر براءتها (١٢٧) ". ويمكن القول على الجملة أن المناخ الفكري كان مواتياً لنظرية روسو.
أما ضحايا مطاعن روسو فقد هدءوا ضمائرهم بالزعم أن هذا المقال الثاني متكلف كسابقهِ. ووصفته مدام دودفان صراحة بأنه دجال (١٢٨). وسخر الشكاك من ادعاءاته بسلامة عقيدته المسيحية، وبتفسيره الحرفي لسفر التكوين (١٢٩) وبدأ جماعة الفلاسفة يرتابون فيه لأنه يقلب خططهم الرامية إلى استمالة الحكومة إلى أفكارهم في الإصلاح الاجتماعي، ولم يحبذوا استثارة كراهية الفقراء. وسلموا بحقيقة الاستغلال، ولكنهم لم يروا أي مبدأ في إحلال الغوغاء محل القضاة. أما الحكومة فلم تحتج على اتهامات روسو، والراجح أن القصر لم يرَ في المقال إلا تدريباً على الخطابة. وكان روسو فخور ببلاغته، فأرسل نسخة من المقال إلى فولتير، وترقب