بالهروب من المدينة إلى الريف، ومن التكلف والتعقد إلى البساطة الطبيعية للحياة، والرضا الهادئ بالزواج والأبوة.
وأحبت النساء اللاتي صدمهن القساوسة المتعلقون بالحياة الدنيا ورؤساء الدين المتشككون، هذا المهرطق الزاهد الذي ندد به جميع الكنائس، وإن اقتصر هذا الحب على الرسائل. فقالت مدام دبلو، النبيلة المحترمة، لجماعة من النبلاء والنبيلات، "ما من شيء يمنع امرأة ذات حس مرهف صادق من تكريس حياتها لروسو إلا أسمى ضروب العفة، لو كانت واثقة من أنه سيحبها حباً حاراً (٣٢). وحسبت مدام دلاتور بعض ما جاء في خطاباته لها من مجاملات اعترافاً بالحب، فاستجابت في رقة وحرارة وتدفق وبعثت إليه بصورتها، مؤكدة أنها لا تنصفها. وابتأست حين أجاب بهدوء رجل لم يرها قط (٢٤). إلا أن معجبات أخريات تمنين لو قبلن الأرض التي يمشي عليها، وأقامت بعضهن مذابح له في قلوبهن، ودعاه بعضهن المسيح المولود من جديد. وكان يصدقهن أحياناً، ورأى في نفسه المؤسس المطلوب لدين جديد (٢٥).
وسط هذا التمجيد كله، أثار الشعب عليه كاهن أعلى من كهنة التمويل (الهيكل) -كأنما لتأكيد القياس-ليدينوه ثائراً خطراً. ففي ٢٠ أغسطس ١٧٦٢ أصدر كرستوف دبومون، رئيس أساقفة باريس، رسالة لجميع الكهنة في أسقفيته ليقرئوا على شعبهم، ويعلنوا على الملأ، اتهامه لإميل ذات التسع والعشرين صفحة. وكان رجلاً صارم العقيدة طاهر السمعة، حارب الجانسنيين والموسوعية والفلاسفة؛ وبدا له الآن أن روسو، بعدما ظهر من انفصاله عن الملحدين، صد أنظم إليهم في مهاجمة الإيمان الذي يرتكز عليه في رأي رئيس الأساقفة نظام فرنسا الاجتماعي كله وحياتها الأخلاقية بأسرها.
واستهل اتهامه بالاستشهاد لما جاء في رسالة بولس الرسول الثانية إلى تيموثاوس:
"ستأتي أزمنة صعبة لأن الناس يكونون محبين لأنفسهم .. متعظمين،