"ولدت في مدينة أسني بييدمونت في ١٧ يناير ١٧٤٩ لأبوين شريفين ثريين محترمين. وأنا أذكر هذه الظروف على أنها ظروف سعيدة للأسباب التالية. فقد خدمن شرف المولد خدمة كبرى، .. لأنه مكنني من أن أذم النبالة لذاتها دون أن أتهم بالدوافع الدنيئة أو بدافع الحسد، وأن أميط اللثام عن حماقاتها، ورذائلها، وجرائمها … أما الثراء فعصمني من قبول الرشوة، وأطلق حريتي في خدمة الحق دون سواه"(٩٠).
ومات أبوه وهو طفل، وتزوجت أمه ثانية. وانطوى الغلام على نفسه، وأطال التفكير، وفكر في الانتحار في الثامنة ولكنه لم يهتد إلى أي طريقة مريحة. وتكفل به خال له وأرسله وهو في التاسعة ليتلقى العلم في أكاديمية تورين. وهناك تولى خادم خاص خدمته والسيطرة عليه بالعنف. وحاول معلموه أن يحطموا إرادته كأول مرحلة في تنشئته رجلاً، ولكن طغيانه ألهب كبرياءه وشوقه إلى الحرية "إن درس الفلسفة … كان من النوع الذي ينوم الطالب وهو واقف منتصباً"(٩١). على ـن موت خاله تركه المتصرف في ثروة عريضة وهو بعد في الرابعة عشرة.
وبعد أن حصل على موافقة ملك سردينيا التي كانت شرطاً للسفر خارج البلاد بدأ في ١٧٦٦ جولة في أوربا استغرقت ثلاثة أعوام. ووقع في غرام نساء شتى، وعشق الأدب الفرنسي والدستور الإنجليزي. ودمرت قراءته لمونتسيكو وفولتير وروسو لاهوته الموروث، وبدأت كراهيته للكنيسة الرومانية- مع أنه بالأمس فقط لثم قدم كلمنت الثالث عشر "شيخ لطيف في جلال وقور"(٩٢). وفي لاهاي شغف حباً بامرأة متزوجة، فابتسمت ثم انصرفت عنه، وعاد يفكر في الانتحار، وكان العهد عهد فرتر، والانتحار فكرة شائعة في الجو. ثم عاد ليكتشف أن الفكرة أشد جاذبية منها تنفيذا، فرجع إلى بيدمونت ولكنه شقي في جو ملؤه الخضوع السياسي والديني شقاء حمله على استئناف أسفاره (١٧٦٩).
وجاب الآن أرجاء ألمانيا والدنمرك والسويد- حيث أحب الطبيعة كما يقول وأحب الناس وحتى الشتاء. ومنها إلى روسيا، فاحتقرها لأنه لم يرَ في