للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

كانت تنقلب رأساً على عقب لتفسح مجالاً لنظريات غير عملية … ثم قالت له في صراحة: "يا مسيو ديدرو، لقد أصغيت بمنتهى اللذة لكل ما أوحى به فكرك اللماح .. أن المرء، بكل مبادئك السامية، قد يؤلف كتباً رائعة، ولكنه يخسر في تجارته … أنك تشتغل على الورق، الذي يتحمل كل شيء .. أما أنا، الإمبراطورة المسكينة، فأشتغل على جلد البشر، وهو جلد سريع التهيج حساس على نحو مختلف" … وبعدها قصر كلامه على الأدب (٤٠). وحين وقعت على مذكرات كان قد كتبها "بتعليمات صاحبة الجلالة الإمبراطورة … لوضع القوانين" وصفتها (بعد وفاته) بأنها "محض هذيان، لا أثر فيه لمعرفة بالحقائق ولا لتدبير ولا لنظر ثاقب" (٤١). ومع ذلك استمتعت بحديثه المفعم حيوية، وكانت تبادله الأحاديث كل يوم تقريباً خلال مقامه الطويل (١).

وبعد أن ديدرو خمسة أشهر من البهجة الغامرة في صحبتها، والتعب في بلاطها، نوى الرحيل إلى أرض الوطن. فأمرت كاترين بصنع عربة خاصة له يستطيع أن يتكئ فيها مستريحاً. وسألته أن الهدايا ترسلها إليه فقال لا شيء، ولكنه ذكرها بأنها لم تف بوعدها أن ترد له نفقات رحلته، وقد قدرها بألف وخمسمائة روبل، فنفحته بثلاثة آلاف وبخاتم ثمين، وعينت ضابطاً ليرافقه حتى لاهاي. فلما عاد إلى باريس أثنى عليها ثناء الشكر والعرفان.

ولم تحاول كاترين الاتصال بروسو، الذي كان نقيضها إلى حد مؤلم في الطبع والأفكار، ولكنها صادقت جريم، لأنها عرفت أن صحيفته "الرسائل الأدبية" تصل إلى أيدي الأوربيين ذوي النفوذ. واتخذ أول خطوة بعرضه (١٧٦٤) أن يوافيها برسائله الدورية، فوافقت ونقدته ألفاً وخمسمائة روبل في السنة. وقد رآها أول مرة حين ذهب إلى سانت بطرسبرج (١٧٧٣) في بطانة مير هسي-دار مشتات لحضور زفاف أخت الأمير إلى الغراندوق بولس. وقدوجدته كاترين أكثر واقعية من ديدرو، مطلعاً إطلاعاً مفيداً


(١) لعل القصة التي زعمت أن أويلر أريك ديدرو أمام الحاشية الروسية ببرهان جبري وهمي على وجود الله قصة مشكوك في صحتها (٤٢).