" إن كانت نيتنا أن نخضع عقلنا وحريتنا للاغتصاب المدني، فإنه لا سبيل أمامنا إلا الامتثال بكل ما نستطيع من هدوء للأفكار والتصورات السوقية (الشعبية) المرتبطة بهذا، واعتناق لاهوت السوقة وسياستهم سواء بسواء أما إذا رأينا هذه الضرورة وهمية لا حقيقية، فإننا سننبذ أحلامهم عن المجتمع كما ننبذ رؤاهم عن الدين، ونحرر أنفسنا حرية كاملة"(٢٩).
وفي هذا رنين شجاع وإخلاص غاضب من راديكالي شاب، فتي متدين روحاً ولكنه يرفض اللاهوت المقرر، شديد الإحساس بما رأى في إنجلترا من فقر وانحطاط، وصاحب موهبة واعية بذاتها ولكنها لم تزل بغير مكان ولا مقام في خضم العالم. وكل فتى يقظ يمر بهذا الطور في طريقه إلى المنصب، والثراء ثم النزعة المحافظة المرتاعة التي سنجدها في كتاب بيرك "تأملات في الثورة الفرنسية". ونلاحظ أن مؤلف "الدفاع" تخفى وراء اسم مجهول، حتى إلى حد ادعاء الموت. وقد فهم كل القراء تقريباً، بما فيهم وليم وربرتن وايرل تشسترفيلد الكتيب على أنه هجوم صادق على الرذائل الشائعة (٣٠)، ونسبه الكثيرون إلى الفيكونت بولنجيروك، لأن عبارة "كاتب نبيل متوفي" تنطبق عليه إذ كان قد مات عام ١٧٥١. وبعد نشر المقال بتسع سنوات رشح بيرك نفسه للانتخاب في البرلمان. وخشي أن تؤخذ فورة أيام الشباب حجة عليه، فأعاد طبع المقال في ١٧٦٥ بمقدمة جاء في قسم منها "أن الغرض من القطعة الصغيرة التالية كان أن تبين أن … الأدوات (الأدبية) ذاتها التي استخدمت لتدمير الدين قد تستخدم بنجاح مماثل لقلب الحكومة"(٣١). وقد قبل معظم كتاب سيرة بيرك هذا التفسير على أنه تفسير صادق مخلص، ونحن لا نستطيع أن نوافقهم على رأيهم ولكن نستطيع أن نفهم جهد المرشح السياسي لحماية نفسه من تحامل الشعب، فمن منا يكون له مستقبل لو عرف ماضيه؟
ويعدل "الدفاع" بلاغة ويفوقه حذقاً وبراعة مؤلف بيرك الآخر الذي نشره في ١٧٥٦ وعنوانه "تحقيق فلسفي في أصل الجليل والجميل"، وقد أضاف إليه في الطبعة الثانية "مقال في الذوق" ولسنا نملك إلا الإعجاب