مع تقاليد النوع الإنساني. فكما أن الطفل لا يستطيع فهم أسباب المحاذير والنواهي الأبوية، فكذلك لا يستطيع الفرد، وما هو إلا طفل بالقياس إلى النوع، أن يفهم دائماً أسباب العادات والتقاليد والأعراف والقوانين التي تجسد تجربة أجيال كثيرة. والحضارة تستحيل "إذا ارتكزت ممارسة جميع الواجبات الأخلاقية، وأسس المجتمع، على جعل أسبابها ومبرراتها واضحة ثابتة بالبرهان لكل فرد". (١٥٠) لا بل حتى "الأحكام المسبقة" لها فائدتها، فهي تحكم سلفاً على المشكلات الحاضرة على أساس الخبرة الماضية.
فالعنصر الثاني من عناصر المحافظة إذن هو "حق التقادم": فالتقليد أو المؤسسة يجب احترامها احتراماً مضاعفاً وعدم تغييرها إلا نادراً إذا كانت مكتوبة فعلاً أو مجسمة في نظام المجتمع أو هيكل الحكومة. والملكية الفردية مثال على حق التقادم وعدم معقولية الحكمة في الظاهر. فإنه ليبدو من غير المعقول أن تملك أسرة واحدة ثروة كبيرة وأخرى ثروة ضئيلة، وأمعن في اللامعقولية أن يسمح للمالك بتوريث ثروته لخلقه الذين لم يحركوا اصبعاً في كسبها، ومع ذلك تبين بالتجربة أن الناس بوجه عام لن ينهضوا للعمل والدرس، ولا للتحضير الشاق المكلف، ما لم يصفوا ثمرات جهودهم بأنها ملكهم الخاص، لهم أن ينقلوها لغيرهم، إلى حد كبير، كما يشاءون. وقد أثبتت التجربة أن تملك الثروة أفضل ضمان يكفل حكمة التشريع واستمرار الدولة.
فليست الدولة مجرد تجمع أشخاص في مكان ما في لحظة ما، إنما هي تجمع أفراد على مدى الزمن المستطيل "إن المجتمع هو حقاً تعاقد … شركة لا بين الأحياء فحسب، بل بين الحياء، والأموات، والذين سيولدون"(١١٥). وذلك الاستمرار هو وطننا. في هذا الكل الثلاثي قد تكون الأغلبية الراهنة أقلية بمضي الزمن، ويجب على المشروع أن يراعي حقوق الماضي (خلال "حق التقادم") وحقوق المستقبل، رعايته لحقوق الحاضر الحي. والسياسة هي، أو ينبغي أن تكون، فن المواءمة بين أهداف الأقليات المتضاربة وصالح الجماعة المستمرة. ويضاف إلى هذا أنه ليس هناك حقوق مطلقة، فما هذه إلا تجريدات ميتافيزيقية لا تعرفها الطبيعة، وليس هناك إلا الرغبات، والقوى، والظروف، و "الظروف تضفي على كل مبدأ سياسي لونه المميز