رؤيته. وقد شكلت أسلوبه دراساته اللاتينية والفرنسية، فرأى الألفاظ الأنجلو- سكسونية البسيطة لا تناسب وقار مذهبه في الكتابة.، وكثيراً ما كتب كأنه خطيب يخطب، وما أشبهه في هذا بليفي يشحذه هجاء تاسيتوس، وببيرك تجلوه فكاهة بسكال الذكية. وكان يوازن بين جمله بمهارة المشعوذ وجذله، ولكنه أسرف في تكرار لعبته هذه حتى قاربت الرتابة المملة أحياناً. وإذا كان أسلوبه يبدو فخماً طناناً، فإنه الأسلوب اللائق بترامي موضوعه وبهائه- وهو تفتت أعظم إمبراطورية شهدها العالم على مدى ألف عام. ومآخذ أسلوبه العرضية تتوه وسط زحام الرواية وقوة الأحداث، والصور والأوصاف الكاشفة، والتلخيصات الباتة التي تجمل قرناً بأسره في فقره، وتزاوج بين الفلسفة والتاريخ.
ولقد شعر جبون بعد أن اضطلع بهذا المبحث المترامي أن له الحق في تضييق حدوده ويقول "إن الحروب، وإدارة الأمور العامة، هما موضوعا التاريخ الرئيسيان"(١٢٠)، ومن ثم أغفل تاريخ الفن والعلم والأدب، فلم يكن لديه ما يقوله عن الكاتدرائيات القوطية أو المساجد الإسلامية، ولا عن العلم أو الفلسفة العربيين، وقد توج بترارك، ولكنه مر بدانتي مرور الكرام. ولم يكد يلقي بالاً إلى حال الطبقات الدنيا، أو قيام الصناعة في القسطنطينية أو فلورنسة في العصر الوسيط. وفقد اهتمامه بالتاريخ البيزنطي التالي لموت هرقل (٦٤١). وفي رأي بيوري "أن جبون أخفق في إبراز حقيقة خطيرة، هي أن الإمبراطورية الرومانية الشرقية كانت حتى القرن الثاني عشر حصن أوربا الحصين في وجه الشرق، كذلك لم يقدر أهميتها في الحفاظ على تراث المدينة الإغريقية"(١٢٢)، غير أن جبون في نطاق الحدود التي رسمها لنفسه بلغ العظمة بربطه النتاج بالأسباب الطبيعية، وبتحويله ضخامة مواده إلى ترتيب مفهوم ورؤيته هادية للصورة بأكملها.
لقد كان علمه واسعاً كثير التفاصيل. فحواشيه ذخيرة من المعرفة تلطفها الفكاهة الذكية، وقد درس أعوص جوانب العالم القديم، بما فيه من طرق وعملات وموازين ومقاييس وقوانين؛ ووقع في أخطاء صححها