ثمانية وعشرين عاماً! التي ملت فرنيه منذ زمن طويل، كثيراً ما توسلت إليه أن يعود بها إلى باريس. وعرض المركيز دفيليت أن يهيئ له أسباب الإقامة المريحة في قصره في شارع بون. وأقبلت الرسائل تترى من باريس صائحة: تعال!
فقرر أن يذهب. فإذا أجهزت عليه الرحلة فإنها لن تفعل أكثر من تقديم نهاية لا مفر منها زماناً يسيراً، فالآن حان وقت الموت. واعترض على الكفرة وحزن خدام بيته، ومشرفو مزرعته، وفلاحو أرضه، والعمال في مستعمرته الصناعية، فوعدهم بأن يعود بعد سبعة أسابيع، ولكنهم كانوا واثقين في حزن أنهم لن يروه بعدها أبداً، وأي خلف له سيعطف عليهم عطفه؟ فلما غادرت القافلة فرنيه (٥ فبراير ١٧٧٨) التف اتباعه من حوله، وبكى الكثير منهم، ولم يستطع هو ذاته أن يملك دموعه. وبعد خمسة أيام، ورحلة ثلاثمائة ميل، وقع بصره على باريس.
ب - تمجيد فولتير
حين بلغت المركبة أبواب باريس فتشها الموظفون بحثاً عن الممنوعات. وقال لهم فولتير مؤكداً "وديني أيها السادة أنني أعتقد أن ليس هنا من ممنوع غير شخصي"(٩). ويؤكد لنا سكرتيره فانيير أن سيده "تمتع طوال الرحلة بصحبة سابغة. فلم أره قط أروق مزاجاً، وكان مرحه مبهجاً"(١٠) للناظرين.
وأعد له جناح في بيت مسيو دفليت في زاوية شارع بون والكي دي تياتر على الضفة اليسرى لنهر تاسين. وفور ترجله من مركبته سار على الرصيف قاصداً بيت صديقه دارجنتال القريب، وكان قد ناهز الثامنة والسبعين. ولم يكن الكونت في بيته، ولكن سرعان ما ظهر في قصر فيليت. وقال فولتير "توقفت عن الموت لآتي واراك". وبعثت إليه صديقة قديمة أخرى بكلمات ترحيب، فرد عليها بتأنقه المألوف في نعي نفسه "لقد وصلت ميتاً، ولا أريد أن أبعث حياً إلا لأرتمي تحت قدمي المركيزة دودفان"(١١). وأبلغه المركيز جوكور أن لويس السادس عشر ثائر لمجيئه إلى باريس، ولكن