شعور الإحباط هذا على اختلاط عقله. وبعد عام ١٧٧٢ أغلق بابه دون الزوار كافة تقريباً عدا برناردان دسان- بيير. وكان في جولاته منفرداً يخامره الظن بأن كل من يمر به تقريباً عدو له. وفيما عدا أشباح العداء هذه فإنه احتفظ بطبيعته الطيبة الأصلية. فاكتتب رغم مقاومة فولتير في المال المجموع لإقامة تمثال له. وحين أرسل إليه أحد الآباء الروحيين كراسة تندد بفولتير وبخ الكاتب قائلاً:"لا ريب في أن فولتير رجل رديء وليس في نيتي أن أثني عليه، ولكنه قال وفعل أشياء طيبة كثيرة جداً بحيث ينبغي أن نرخي الستار على أخطائه"(٥٨).
وحين كان ينصرف فكره عن "المؤامرة" التي يتخيلها من حوله، كان في استطاعته أن يكتب بوضوح كالعهد به من قبل، وبروح مدهشة من المحافظة والواقعية وقد رأينا كيف التمس المؤتمر البولندي المنعقد عام ١٧٦٩ اقتراحاته بشأن دستور جديد. وقد بدأ كتابه "آراء حول حكومة بولندة" وفي أكتوبر ١٧٧١، انتهى منه في أبريل ١٧٧٢. وأول انطباعاتنا عنه أنه يخرق جميع المبادئ التي دافع عنها من قبل دفاعاً مشبوباً. فإذا أعدنا قراءته في شيخوختنا كان عزاء لنا أن نرى أن روسو (وقد بلغ الستين) يمكن أن يشيخ هو أيضاً، وأن ينضج- كما يحب الشيوخ أن يقولوا. فالرجل الذي صرخ قائلاً "ولد الإنسان حراً، وهو في كل مكان يرسف في الأغلال" هذا الرجل بعينه نبه الآن البولنديين، الذين حكم عليهم "حق النقض المطلق" بالفوضى، إلى أن الحرية امتحان عسير كما أنها عطية إلهية، وأنها تحتاج إلى مجاهدة للنفس أشق كثيراً من طاعة الأوامر الخارجية. قال:
"إن الحرية طعام قوي، ولكنه طعام يحتاج إلى هضم متين .. إنني أضحك من تلك الشعوب المنحطة التي تثور لمجرد كلمة من متآمر دساس، والتي تجرؤ على التحدث عن الحرية وهي تجهل كل الجهل ما تعنيه، والتي تتصور أنه لكي يتحرر الإنسان يكفي أن يكون ثائراً متمرداً. أيتها الحرية المقدسة السامية! ليت هؤلاء المساكين يعرفونك حق المعرفة، ليتهم يتعلمون أي