آخر- إلى وعي فطري بالصواب والخطأ، حتى هذا الوعي لا بد من أن يدفئه الوجدان إن أريد منه أن يولد الفضيلة، وأن ينجب رجلاً فاضلاً لا آلة حسابية ماهرة.
وهذا بالطبع كلام قاله بسكال من قبل، ولكن بسكال كان قد رفضه فولتير، وفي ألمانيا كانت "عقلانية" فولف في صعود في الجامعات. وحين أصبح إيمانويل كانت أستاذاً في كونجزبرج كان قد اقتنع بما قاله هيوم وجماعة الفلاسفة الفرنسيين من أن العقل وحده لا يمكنه أن يقدم الدفاع الكافي حتى عن أساسيات اللاهوت المسيحي. ولكنه وجد في روسو سبيلاً لإنقاذ تلك الأساسيات: وهي أن تنكر مفعول العقل في العالم فوق الحسي، وتؤكد استقلال الفكر، وأولية الإرادة، والقوة المطلقة للضمير الفطري؛ وتستنبط حرية الإرادة، وخلود النفس، ووجود الله، من شعور الإنسان بالتزام غير مشروط بالقانون الأخلاقي. وقد أقر كانت بيدنه لروسو، وعلق صورته على جدار مكتبه، ونادى به "نيوتنا" للعالم الأخلاقي (٨٤). وشعر ألمان آخرون بروح روسو تتقمصهم: ياكوبي في فلسفة الوجدان، وشلايئر ماخر في تصوفه الدقيق النسيج، وشوبنهاور في تمجيده للإرادة. وتاريخ الفلسفة منذ كانت صراع بين روسو وفولتير.
أما الدين فقد بدأ بتحريم روسو، ثم انتقل إلى استخدامه منقذاً له. وأجمع القادة البروتستانت والكاثوليك على تكفيره، ووضع على صعيد واحد مع فولتير وبيل بوصفهم رجالاً "يبثون سموم الضلالة والفسوق"(٨٥). ومع ذلك فحتى في حياة روسو وجد نفر من رجال الدين والعلمانيين راحة وعزاء حين سمعوا أن قسيس سافوا قد قبل بتحمس العقائد الجوهرية للمسيحية، وأنه نصح الشكاك بأن يثوبوا إلى إيمانهم الأصيل. وحين فر روسو من سويسرا عام ١٧٦٥ رحب به أسقف ستراسبورج، وبعد أن عاد من إنجلترا وجد بعض الكاثوليك الفرنسيين يستشهدون بأقواله شاكرين في ردهم على غير المؤمنين، وتراودهم الآمال في هدايته الظافرة.
وقد حاول منظرو الثورة الفرنسية إقامة أخلاقية مستقلة عن العقائد