للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

بل كذلك من الآيات الروائع التي كانت لم تزل في أيامهم تسطع على مرآة النيل، فمن مصر وبلاد النهرين أخذت اليونان نماذج عمدها الدورية والأيونية؛ ومن تلك البلاد نفسها جاءنا إلى جانب العمد "البواكي" والدهاليز والقباب؛ وساهمت أبراجُ الشرق الأدنى القديم بنصيب في تشكيل العمارة الأمريكية اليوم؛ وكان للتصوير الصيني والرسوم الحفرية اليابانية أثرهما في تغيير بعض قواعد الفن في أوربا في القرن التاسع عشر، وكذلك وضع "البورسلان" الصيني أمام أعين الأوربيين نموذجاً جديداً للكمال تحتذيه، والجلال الحزين الذي تسمعه في الأغنية الجريجورية، يرجع عصراً بعد عصر حتى يبلغ أصله الأول في الأغاني الباكية التي كان ينشدها اليهود المشردون إذ هم يجتمعون خاشعين في معابدهم المتناثرة هنا وهناك.

تلك هي بعض عناصر المدنية؛ وجزء من التراث الذي خلفه الشرق للغرب.

ومع ذلك كله فقد وجد العالم القديم (من التاريخ الأوربي) مجال الإضافة إلى هذا التراث الفني فسيحاً، فستبنى إقريطش حضارة تكاد تبلغ في قِدَمِها مبلغ الحضارة المصرية، وستكون حلقة اتصال تربط بين ثقافات آسيا وأفريقيا واليونان؛ وسترقى اليونان بالفن بحيث لا تنشد الحجم بل الكمال، وستزاوج بين رقة الأنوثة التي تتمثل في الصورة النهائية والصقل الختامي للقطعة الفنية وبين قوة الذكورة التي تتمثل في عمارة مصر وتماثيلها، فتمهد السبيل بذلك إلى جو يظهر فيه أعظم عصر شهده تاريخ الفن؛ وستُدخل في نواحي الأدب كلها تلك الخصوبة المبدعة التي يتصف بها العقل الحر، فتضيف ملاحم ملتوية الشعاب ومآسي عميقة الأغوار، وملاهي ضاحكة وتواريخ تأخذ بالخيال، ستضيف كل ذلك إلى ذخيرة الآداب الأوربية، وستنظم الجامعات وتقيم حرية الفكر الدنيوي فترة ناصعة تتخلل فترات يضطهد فيها الفكر المستقل؛ وستفوق كل سوابقها في الرقي بالرياضة والفلك وعلم الطبيعة التي خلفتها لها مصر والشرق؛ وستبتكر علوم الحياة ابتكاراً، وتنشئ نظر الإنسان إلى الكون نظرة طبيعية، وستأخذ بيد الفلسفة حتى تصل بها إلى مرحلة الوعي