ولكن سكانها الحاليين المنهمكين في أعمالهم الحاضرة لا يشغلون أنفسهم بالقرون الطوال المستقرة في بطون الثرى تحت أقدامهم.
وأنشأ المجاريون أيضاً على البسفور حوالي عام ٦٦٠ مدينة بيزنطيوم (بيزنطية Byzantium) (١) التي كانت إلى عهد قريب تسمى القسطنطينية، والتي تسمى الآن اسطنبول. وقد كان هذا الثغر ذو الموقع الحربي المنيع حتى قبل أيام بركليز مفتاح أوربا كما سماه نابليون في معاهدة تلزت Tilsit. وقد وصف بولبيوس في القرن الثالث قبل الميلاد موقعه البحري بأنه "من حيث السلامة والرخاء خير من موقع أية مدينة أخرى في العالم المعروف لنا"(٩٧). وازدادت ثروة بيزنطية بما كانت تفرضه من المكوس على السفن المارة بها، وبما كانت تصدره إلى العالم اليوناني من حبوب روسيا الجنوبية ("سكوذيا" Scythia) والبلقان، وبما كان يُصاد بلا أدنى عناء من السمك الذي يتجمع في المضايق الضيقة. وقد كان التواؤها، وما تفيضه عليها صناعة الصيد من ثرائهما الذين خلعا على المدينة اسم "القرن الذهبي"، وكانت أثينة في عصر بركليز هي المسيطرة على سياسة بيزنطية، وكانت تفرض المكوس على السفن المارة لتملأ بها خزائنها في أوقات الشدائد، وتعامل إصدار الحبوب من موانئ البحر الأسود معاملة مهربات الحرب (٩٨).
وأنشأ اليونان على الشاطئ الشمالي أو التراقي للبروبنتس مدائن عند سلمبريا Selymbria. وبرنثوس Perinthus (أرجلي Eregli الحديثة) وبيزنثي Bisanthe، وكليبويس Callipolis (غاليبولي)، وسستوس Sestus. ثم أقاموا فيما بعد مدناً أخرى على ساحل تراقية الجنوبي الغربي عند أفروديسياس Aphrodisias، وإينوس Oenus، وأبدرا Abdera- حيث قام ليوسبوس
(١) ونرجح أن اسمها مشتق من لفظ بيزاس Byzas أي الملك الوطني.