الثانية أكثر تضلعاً في الأدب والفلسفة، وأقل عنفاً ونزعة حربية من كاتب الأولى؛ وهو أكثر منه تفكيراً وإدراكاً لذاتيته، وأملك منه لوقته وأكثر منه حضارة؛ وقد بلغ من رقته أن ظن بنتلي Bentley أن الأوذيسة إنما كتبت لفائدة النساء خاصة (٢٤).
ترى هل الأوذيسة من قول شاعر واحد أو عدة شعراء؟ إن الجواب عن هذا السؤال أصعب في حالة الأوذيسة منه في حالة الإلياذة. إن فيها هي الأخرى شواهد على الإضافة والتلفيق، ولكن هذه الإضافات كانت من عمل كتاب أعظم حذقاً من كتاب الملحمة القديمة؛ فحبكتها، وإن كانت كثيرة اللف والدوران، متناسقة تناسقاً عجيباً، خالية من التناقض، لا يستحي أن يكتبها كاتب قصصي حديث، يلمح الإنسان من بدايتها خاتمتها، وكل حادثة من حوادثها تقرب القارئ من هذه الخاتمة، وهي تربط كتبها الأربعة فتؤلف منها وحدة كاملة. وأكبر الظن أن الملحمة قد بنيت على قصائد كانت معروفة من قبلها شأنها في هذا شأن الإلياذة، ولكن عملية التوحيد فيها أتم وأقوى منها في الإلياذة. وفي وسعنا أن نحكم بشيء كثير من التردد والإحجام أن الأوذيسة أحدث من الإلياذة بقرن من الزمان، وأن الجزء الأكبر منها من وضع رجل واحد.
أما شخصياتها فأقل قوة وأقل وضوحاً من شخصيات الإلياذة، فبنلبي شبح غير واضح، ولا تبرز واضحة من خلف نسجها إلا في آخر الملحمة، حين تطوف بعقلها لحظة من لحظات الشك، أو لعلها من لحظات الندم، بعد عودة سيدها. أما هلن بطلة الإلياذة فأشد منها وضوحاً، وهي امرأة فذة منقطعة النظير؛ فهذه المرأة التي من أجلها أقلعت ألف سفينة ولاقى الموت في سبيلها عشرة آلاف من الرجال لا تزال "إلهة بين النساء"، ناضجة الجمال في سن الكهولة، أرق أخلاقاً وأهدأ طباعاً مما كانت من قبل، ولكنها لم تفقد شيئاً من كبريائها وزهوها، وتتقبل في لطف ورقة كل مظاهر الترحاب والتبجيل التي تحيط بربات التاج