وبينما كان الشقاق بين الأحزاب في سائر المدن اليونانية يستنفذ جهود المواطنين، وغصن الأدب يذوي ويذبل، كانت الثروة المتزايدة في أثينة والحرية الدمقراطية تتعاونان مع الزعامة الحكيمة المثقفة على خلق عصرها الذهبي المجيد. وبينما كان بركليز، وأسبازيا، وفدياس، وأنكساغوراس، وسقراط يشاهدون مسرحيات يوربديز في ملهى ديونيسس، كان في وسع أثينية أن تشهد هي الأخرى ذروة مجد الحياة في بلاد اليونان وكمال وحدتها - من سياسة، وفن، وعلم، وفلسفة، وأدب، ودين، وأخلاق، تشهد هذه كلها وليس لكل ناحية منها حياة منفصلة عن الأخرى في صحف المؤرخين، بل تراها وقد اندمجت بعضها ببعض فتكون منها صرح متعدد الألوان هو مفخرة تاريخ هذه الأمة.
وترددت عواطف بركليز بين الفن والفلسفة، ولعله كان يصعب عليه أن يقول أي الرجلين يحب أكثر من الآخر: فدياس أو أنكساغوراس؛ ولعله أيضاً قد ولى وجهه شطر أسبازيا لكي يوفق بين رغبته في الجمال وفي الفلسفة معاً. ويقال لنا إنه "كان يكن لأنكساغوراس منتهى الإجلال والإعجاب"(١٨). ويقول أفلاطون (١٩) إن الفيلسوف هو الذي دفع بركليز إلى شؤون السياسة والحكم؛ ويعتقد بلوتارخ أن اتصال بركليز الطويل الأمد بأنكساغوراس هو الذي أفاد منه سمو القصد وقوة اللغة التي سمت كثيراً فوق بلاغة الغوغاء وما فيها من سخف حقير دنيء؛ هذا فضلاً عما أفاده من هدوء واطمئنان ووقار في جميع حركاته، وثبات لا يتزعزع قط مهما يحدث حوله في أثناء خطبه. ولما تقدمت بأنكساغوراس السن وانهمك بركليز في الشؤون العامة نسي رجل الحكم رجل الفلسفة فلم يعد له مكان ما في حياته زمناً ما؛ ولكنه لما سمع فيما بعد أن أنكساغوراس يعاني مرارة الجوع والحرمان بادر إلى معونته، وقبل منه في تواضع ما وجهه إليه من اللوم بقوله:"إن من يحتاجون يوماً ما إلى مصباح، يمدونه بالزيت"(٢٠).
وقد لا يصدق الإنسان لأول وهلة أن هذا "الأولمبي" الصارم كان مرهف