نفسه، ونال أسلوبه من الإعجاب ما ناله أفلاطون (٢٧)، ووصفه فرانسس بيكن Francis Bacan في ساعة تخلى فيها عن عناده بأنه أعظم الفلاسفة الأقدمين على بكرة أبيهم (٢٨).
وهو يبدأ كما يبدأ بارمنيدس ببحث تحليلي في الحواس فيقول إنه لا بأس علينا من الوثوق بها في الأغراض العملية، ولكننا لا نكاد نحلل ما تمدنا به من المعلومات حتى نجد أنفسنا ننتزع من العالم الخارجي طبقة بعد طبقة مما تضفيه عليه الحواس من اللون، والحرارة، والطعم، والنكهة، والحلاوة، والمرارة، والصوت. وهذه "الصفات الثانوية" كائنة فينا نحن أو في عملية الإدراك الكلية، لا في الشيء الموضوعي، وفي العالم الخالي من الآذان لا تحدث الغابة الساقطة صوتاً، ولا يكون لماء البحر مهما غضب هدير "والعرف (Nomos) هو الذي يجعل الحلو حلواً والمر مراً، والحار حاراً، والبارد بارداً، أما الحقيقة فهي أنه لا وجود إلا للجواهر الفردية (الذرات) والفراغ" (٢٩). ومن ثم فإن الحواس لا تمدنا إلا بالمعلومات أو الآراء العامة، أما المعرفة الحقة فلا سبيل إليها إلا البحث والتفكير". والواقع أننا لا نعرف شيئاً، فالحق مدفون على بعد منا عظيم … ولسنا نعرف شيئاً معرفة أكيدة، بل كل ما نعرفه هو ما يحدث في جسمنا من تغيرات بتأثير القوى التي تصطدم به" (٣٠). وكل الأحاسيس ناشئة من الجواهر الفردية التي يقذف بها الجسم الخارجي فتقع على أعضاء الحواس (٣١)، وليست الحواس كلها إلا أشكالاً من اللمس (٣٢).
وتختلف الجواهر الفردية التي يتكون منها العالم في شكلها وحجمها ووزنها، وكلها تنزع إلى السقوط إلى أسفل، وتنتج من هذا حركة دائرية تتحد فيها الجواهر المتماثلة بعضها ببعض فتنتج من اتحادها الكواكب والنجوم. وهذه الجواهر لا يقودها فكر (Nous) أو ذكاء، ولا يرتبها "حب" أو "كراهية" كما يقول أنبادوقليس، بل إن الضرورة- أي الأثر الطبيعي للعلل الكامنة فيها هي التي تسيطر عليها جميعاً (٣٣). وليس ثمة مصادفة، بل المصادفة