لهذا لم يقبل اقتراح أقريطون، بل أخذ يبحثه من وجهة النظر الأخلاقية، ويناقشه على الطريقة الجدلية، ويطبق عليه المنطق إلى النهاية (٤٧). ولم ينقطع تلاميذه عن زيارته في سجنه كل يوم خلال الشهر الذي انقضى بين إدانته وتنفيذ الحكم فيه، ويبدو أنه ظل يتحدث إليهم وهو هادئ حتى الساعة الأخيرة من حياته. ويحدثنا أفلاطون أنه أخذ يعبث بشعر فيدون Phaedo ويقول: "يخيل إليَّ يا فيدون أن هذه الغدائر الجميلة ستقص غداً" - حزناً عليَّ. وجاءته زانثبي باكية وبين ذراعيها أصغر أطفالهما؛ فأخذ يواسيها، وطلب إلى أقريطون أن يصحبها إلى دارها. وقال له أحد تلاميذه المتحمسين:"إنك لا تستحق هذه الميتة" فأجابه سقراط بقوله: "هل تريد إذن أن أستحقها؟ "(٤٩).
ويقول ديودور الصقلي (٥٠). إن الأثينيين ندموا على فعلتهم بعد موته وأعدموا من اتهموه. ويقول سويداس إن ملاتوس مات رجماً بالحجارة (٥١)، ولكن بلوتارخ يروي رواية أخرى فيقول إن الشعب غضب على متهميه غضباً بلغ من شدته إنهم لم يجدوا مواطناً يوقد لهم النار، أو يجيب لهم عن سؤال، أو يستحم في ماء استحموا هم فيه، فلم يسعهم آخر الأمر إلا أن يقتلوا أنفسهم (٥٢). ويروي ديوجانس ليرتيوس أن ملاتوس أعدم، وأن أنيتوس نفي، وأن تمثالاً من البرنز أقيم في أثينة تخليداً لذكرى الفيلسوف (٥٣). ولكنا لا نعرف ما في هذه القصص من الصدق أو الكذب (١).
وانتهى العصر الذهبي بموت سقراط. فقد خارت قوى أثينة المادية والمعنوية؛ ولم يكن ثمة ما يستطاع به تعليل القسوة المتناهية التي عاملت بها ميلوس، والحكم الوحشي الذي أصدرته على متليني، وإعدام قواد أرجنوسي،
(١) أما جروت (٤٥). فيشك فيها، ومما يبعث في نفوسنا نحن الشك في صدقها ما يبذله أفلاطون وأكسانوفون من الجهد في الدفاع عن سمعة سقراط. ولكن هذه الروايات كان يقبلها الناس بوجه عام في الزمن القديم (كان يقبلها مثلاً ترتليان وأوغسطين (٥٥))، وهي تتفق كل الاتفاق مع عادات الأثينيين.