والتضحية بسقراط على مذبح الدين المحتضر، لم يكن ثمة ما يستطاع به تعليل هذا كله إلا ما أصاب الأخلاق فيها من تدهور بسبب الحروب الطوال التي خاضت غمارها وما جرته على أهلها من عذاب وآلام. لقد تصدعت جميع الدعائم التي تستند إليها الحياة الاثينية: فأقفرت تربة أتكا من جراء الغارات الإسبارطية، وأحرقت أشجار الزيتون البطيئة النمو، ودمر الأسطول الأثيني فلم تستطع أثينة بعد تدميره أن تسيطر على الطرق التجارية وتضمن ما يلزمها من الطعام؛ وأقفرت خزائنها من المال، وفرض على الثروات الخاصة من الضرائب الباهظة ما كاد يذهب بها كلها؛ وقتل نحو ثلثي مواطنيها. وكان ما أصاب بلاد اليونان من الضرر بسبب غزوة الفرس أقل مما أصابها بسبب حروب البلوبونيز. لقد تركت موقعتا سلاميس وبلاتيا بلاد اليونان فقيرة ولكنها مرفوعة الرأس تملأ نفوس أهلها العزة وتعمر قلوبهم الشجاعة، أما الآن فقد افتقرت بلاد اليونان مرة أخرى، وأثخنت أثينة بجراح في روحها مستنسرة لا يرجى لها برء.
ولم يكن يحفظ عليها حياتها إلا شيئان: عودة الديمقراطية على أيدي رجال من ذوي الحكمة والاعتدال، وشعورها بأنها في خلال الستين سنة الأخيرة، وحتى في خلال الحرب نفسها، قد أخرجت إلى العالم فناً وأدباً لا يدانيهما نتاج أي عصر آخر في تاريخ البشر. نعم إن أنكساغورس قد نفي، وأن سقراط قد أعدم، ولكن القوة التي بعثاها في الفلسفة كانت تكفي لأن تجعل أثينة من ذلك الحين، وعلى الرغم منها، مركز التفكير اليوناني الذي بلغ فيها ذروته. فقد نضجت فيها تلك الآراء التي كانت من قبل أفكاراً تجريبية لم تتشكل بعد وأضحت نظماً عظيمة مستقرة ظلت مصدر الحركة في الحياة الفكرية الأوربية عدة قرون؛ وحلت محل نظم التربية العالية المضطربة التي لا تخضع لقاعدة والتي كان يتولى أمرها السوفسطائيون، حلت محلها أولى الجامعات التي عرفها التاريخ - وهي الجامعات التي جعلت أثينة في