في إحداها ثورات شعبية. وأخذت الطبقات الوسطى تحذو حذو الطبقات العليا في عدم الثقة بالدمقراطية وترى أنها حسد أتيح له السلطان، كما أخذ الفقراء يفقدون ثقتهم فيها ويرونها مساواة زائفة بين الناخبين تنقصها الفروق الهائلة بين الثروات. وقد تركت هذه الأحقاد المريرة بين الطبقات بلاد اليونان منقسمة على نفسها داخلياً ودولياً حين انقض عليها فليب، حتى لقد رحب بقدومه كثيرون من الأغنياء في المدن اليونانية، ورأوا أنه لولاه لما كان هناك مفر من اندلاع لهيب الثورة في أرجائها (٢٦).
وسار الانهيار الخلقي مع ازدياد الترف واستنارة العقل جنباً إلى جنب، واعتزت العامة بخرافاتها واستمسكت بأساطيرها، فقد كانت آلهة الأولمبس تلفظ أنفاسها الأخيرة ولكن آلهة أخرى كانت تولد، فكانت أرباب غريبة مثل إيزيس وأمون، وأتيس، وبندس، وسبيل، وأدنيس تستورد من مصر وآسية؛ وجمع انتشار الأرفية عباداً جدد للديونشس في كل يوم. ولم يكن للدين التقليدي القديم فائدة تذكر لطبقة الملاك الوسطى النصف الأجنبية الآخذ شأنها في الارتفاع، فلم تكن آلهة المدينة التي ترعاها تنال من هذه الطبقة إلا الاحترام الصوري الرسمي، ولم تعد توحي إلى أفرادها بالمبادئ الخلقية أو الإخلاص للدولة والولاء لها (١). وكافحت الفلسفة لكي تجد في الولاء السياسي ومبادئ الأخلاق الطبيعية بديلاً من الأوامر الإلهية، أو أن تتخذ منها رباً يرقب الناس من علٍ، ولكن قل من المواطنين من كان يهمه أن يعيش عيشة البساطة السقراطية أو عيشة رجل سقراط السامي "ذي العقل العظيم".
ولما فقد دين الدولة سلطانه على الطبقات المتعلمة زاد بالتدريج تحرر الأفراد
(١) يقول أفلاطون (في القوانين صفحة ٩٤٨): "والآن وفي الناس طائفة لا تؤمن قط بوجود الآلهة … أصبح الواجب وضع شرائع تستند إلى العقل وتضع حداً للأيمان التي تقسمها كلتا الطائفتين".