"ما أكثر الشرور التي تلازم الطبيعة البشرية؛ ولكننا نحن قد اخترعنا من أكثر الشرور التي تفرضها علينا الطبيعة، بإثارة الحروب والانقسامات الداخلية … ولم يقم أحد قط بمقاومة هذه الشرور، والناس لا يستحيون أن يبكوا من الكوارث التي اصطنعها الشعراء، على حين أنهم ينظرون بعين الرضا إلى ما تؤدي إليه الحرب القائمة بيننا من آلام حقة، وكوارث لا حصر لها. وهم لا يشفقون منها، بل إنهم ليبتهجون مما يصيب غيرهم من الأحزان أكثر من ابتهاجهم بما ينالون من النعم"(٨).
وكان يقول إنه إذا كان لا بد لليونان أن يقاتلوا فلم لا يقاتلون عدواً حقيقياً؟ لم لا يطردون الفرس إلى هضابهم؟ ويتنبأ بأن شرذمة قليلة من اليونان تستطيع أن تهزم جيشاً كبيراً من الفرس (٩). وقد توحد حرب مقدسة من هذا النوع بلاد اليونان في آخر الأمر، ولم يكن أمام اليونان إلا واحدة من اثنتين فإما وحدة اليونان وإما انتصار البرابرة ولا ثالثة لهما.
واعتزم إسقراط أن يحقق نظريته هذه عملياً، فأخذ يطوف ببحر إيجة بعد عامين من نشر هذه الدعوة (٣٧٨) وبصحبته تلميذه السابق تموثيوس، وساعد على وضع شروط الحلف الأثيني الثاني. وكان ما تعاقب على هذه الأمل الجديد في الوحدة من قوة تارة وخيبة تارة أخرى من أشد الآلام الكثيرة التي مني بها في حياته الطويلة. فأخذ يقرع أثينة في نشرته القوية الجريئة "في السلم" لأنها أفسدت الحلف مرة أخرى فحولته إلى إمبراطورية، وأهاب بها أن توقع صلحاً يؤمن كل دولة يونانية من أن تعتدي عليها أثينة مرة أخرى:"إن ما تسميه إمبراطورية لهو في الحقيقة كارثة، لأنها بطبيعة تكوينها تفسد كل من له صلة بها"(١٠). ومن أقواله أن الاستعمار قد قضى على الدمقراطية لأنه علم الأثينيين أن يعيشوا على الجزية الأجنبية؛ فلما خسروا هذه الجزية أرادوا أن يعيشوا على