للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بحياتنا من أجل قوادنا. وعلى هذا فالناس كلهم مجمعون على أن اللذة هي الخير الذي لا خير بعده، وأن كل ما عداها حتى الفضيلة والفلسفة يجب أن يحكم عليه حسب قدرته على توفير اللذة. وعلمنا بالأشياء غير مؤكد، وكل ما نعرفه معرفة مباشرة أكيدة هو حواسنا، فالحكمة إذاً لا تكون في السعي وراء الحقيقة المجردة بل في اللذات الحسية. وليست أعظم اللذات هي اللذات العقلية أو الأخلاقية، بل هي اللذات الجسمية أو الحسية، ولهذا فإن الرجل العاقل هو الذي يسعى وراءها أكثر من سعيه وراء أي شيء آخر، والذي لا يضحي بخير عاجل في سبيل خير آجل غير مؤكد. والحاضر وحده هو الموجود، وأكبر الظن أنه لا يقل من حيث الخير على المستقبل إن لم يفقه في ذلك. وفن الحياة هو التهاب اللذائذ وهي عابرة والاستمتاع بكل ما نستطيع أن نحصل عليه في الساعة التي نحن فيها (٢٣). وليست فائدة الفلسفة في أنها قد تبعدنا عن اللذة، بل فائدتها في أنها تهدينا إلى أن نختار أحسن اللذات وننتفع بها. وليس صاحب السلطان على اللذات هو الزاهد المتقشف الممتنع عنها، بل هو الذي يستمتع بها دون أن يكون عبداً لها، والذي يستطيع بعقله أن يقرن بين اللذائذ التي تعرضه للخطر، والتي لا تعرضه له. ومن ثم كان الرجل الحكيم هو الذي يُظهر الاحترام المقرون بالفطنة للرأي العام وللشرائع، ولكنه يعمل بقدر ما يستطيع على "ألا يكون سيداً لإنسان ما أو عبداً له" (٢٤).

وإذا كان يشرف الإنسان أن يعمل بما يدعو الناس إلى عمله فقد كان أنتسبوس خليقاً ببعض هذا الشرف. فقد كان في فقره وغناه على السواء سمحاً كريماً، ولم يكن يتظاهر بالميل إلى إحدى الناحيتين. وكان يصر على أن يتقاضى أجراً على ما يعمله، ولا يتردد في أن يتملق للطغاة إذا كان في هذا الملق ما يوصله إلى أغراضه. وقد ابتسم ولم يأفف حين بصق دنيسوس الأول في وجهه وقال: "إن من واجب الصياد أن يتحمل أكثر من هذا الماء ليمسك بسمكة