قد وهبت الإنسان الحياة السهلة المريحة، ولكن الإنسان هو الذي عقّدها بالتلهف على الترف. وليس معنى هذا أن الكلبيين كانوا شديدي الإيمان بالآلهة، وشاهد ذلك أن قسيساً أخذ يعدد لأنتستانس ما يتمتع به المستمسكون بأسباب الفضيلة من خير كثير بعد وفاتهم، فسأله الفيلسوف:"ولم إذن لا تموت؟ "(٤٩)، وكان ديجين يسخر من الطقوس الدينية الخفية، ويقول عن القرابين التي قربها في سمثريس من نجوا من الموت بعد أن حُطمت سفينتهم:"لو أن هذه القرابين قد قربها الذين هلكوا لا الذين نجوا لكانت أكثر من هذا عدداً"(٥٠)، وكان كل شيء في الدين عدا الاستمساك بالفضيلة يبدو للكلبيين أوهاماً وخرافات، وهم يرون أن جزاء الفضيلة يجب أن يكون هو الفضيلة نفسها، وأن من الواجب ألا يكون هذا الجزاء موقوفاً على عدالة الآلهة. وقوام الفضيلة هو الأكل والتملك، والحد من الرغبات قدر المستطاع، والاقتصار على شرب الماء، وعدم الإساءة لأي إنسان. وسُئل ديجين: وكيف يستطيع الإنسان أن يدفع عنه أذى عدوه؟ فأجاب بقوله:"بأن يثبت أنه شريف مستقيم"(٥١). والشهوة الجنسية دون غيرها هي التي كانت تبدو للكلبيين غريزة معقولة، وكانوا يتجنبون الزواج بوصفه رابطة خارجية ولكنهم كانوا يحمون البغايا. وكان ديجين يدعو إلى الحب الجر الطليق، وإلى شيوعية الزوجات (٥٢)؛ وكان أنتستانس يطلب الاستقلال في كل شيء، ومن أجل ذلك كان يشكو من أنه لا يستطيع أن يشبع جوعه بمفرده كما يستطيع أن يشبع شهوته الجنسية على هذا النحو (٥٣). وإذ كان الكلبيون قد قرروا أن الشهوة الجنسية شهوة سوية طبيعية كالجوع، فقد أعلنوا أنهم لا يفقهون لم يخجل الناس من إشباع إحدى الرغبتين جهرة أمام الناس كما يشيعون الأخرى (٥٤). ومن رأيهم أن الإنسان يجب أن يكون مستقلاً في كل شيء حتى في الموت نفسه،