وهرعت الراقصات اليونانيات إلى الثغور الآسيوية (١٠)، وغشى الفساد الخلقي الجنسي ستار يوناني ظريف، وأثارت مدارس الألعاب الرياضية اليونانية وساحاتها في بعض الشرقيين شغفاً لم يألفوه من قبل بالألعاب والحمامات. فأنشأت المدن طرقاً جديدة تمدها بالماء ونظماً جديدة لصرف الأقذار، ورصفت الطرق ونظفت. ونشطت المدارس، ودور الكتب، والتمثيل والقراءة والأدب؛ وكان طلاب العلم في الكليات والجامعات يطوفون بشوارع المدن يحاجج بعضهم بعضاً، أو يحاجون الناس كما كانوا يفعلون في العهد القديم؛ ولم يكن أحد يحسب من المثقفين إلا إذا كان يفهم اللغة اليونانية، ويستطيع الاستمتاع بمسرحيات مناندر، ويوربديز. وكانت سيطرة الحضارة اليونانية على بلاد الشرق الأدنى من أغرب الظواهر في التاريخ القديم؛ ولم ترَ آسية من قبل مثل هذا التبدل السريع الواسع المدى. غير أننا لا نعرف من تفاصيله وآثاره إلا النزر اليسير؛ ذلك أن ما وصلنا من المعلومات عن آداب آسية السلوقية، وفلسفتها، وعلومها جد ضئيل، وإذا لم نجد فيه إلا عدداً قليلاً من الشخصيات الجبارة أمثال زينون الرواقي، وسلوقس الفلكي، وفي العهد الروماني مليجر الشاعر، وبسيدبس الذي كان يلم بكثير من العلوم المختلفة، إذا لم نجد إلا هذا العدد القليل فإنا لا نستطيع أن نجزم أنه لم يكن هناك كثيرون غيرهم. والحق أن هذه الثقافة كانت ثقافة مزدهرة، ذات ألوان متعددة، رقيقة مهذبة، متحمسة، لا تقل خصباً في الفنون عن أية ثقافة سبقتها. ومبلغ علمنا أنه لم توجد قبلها ثقافة تضارعها في سعة انتشارها وفي وحدتها المعقدة بين ما كان يحيط بها من بيئات متباينة. وقصارى القول أن غرب آسية ظل مدى قرن من الزمان تابعاً لأوربا، وأن السبيل قد مُهد للسلام الروماني والتآلف المسيحي الجامع الشامل.
ولكن هذا لا يعني أن الشرق قد غلب على أمره، فلقد كانت خصائصه متأصلة فيه قديمة العهد، ولم يكن من اليسير أن يسلم روحه إلى الغرب أياً كانت