قوته. لهذا ظلت جمهرة الناس تتخاطب بلغاتها الوطنية، وتجري على سننها وأساليبها المألوفة من قديم الزمان، وتعبد الآلهة التي كان يعبدها آباؤها وأجدادها؛ وكان الغشاء اليوناني الذي يغشى البلاد البعيدة عن شواطئ البحر الأبيض المتوسط رقيقاً، وكانت المراكز الهلينية القائمة في هذه الأصقاع أمثال سلوقية على نهر دجلة جزائر يونانية في البحر الشرقي. ولم تمتزج في هذه الأصقاع الأجناس والثقافات الامتزاج الذي كان يحلم بهِ الإسكندر؛ بل كان من فوق سطحه يونان وحضارة يونانية، ومن تحتها خليط من الشعوب والثقافات الشرقية، ولم تدخل الصفات الذهنية اليونانية في العقل الشرقي، ولم تُحدث ما امتاز بهِ اليونان من نشاط وحب للجديد، وحرص على الشؤون الدنيوية، ورغبة شديدة في الكمال، والتعبير عن الذات والنزعة الفردية القوية، لم يُحدث هذا كله تغييراً ما في أخلاق الشرقين. بل حدث عكس هذا، حدث على مر الأيام أن جاشت أساليب التفكير والإحساس الشرقية من أسفل وغمرت الطبقة اليونانية الحاكمة، ثم نقلها هؤلاء إلى الغرب فكانت هي التي بدلت العالم "الوثني". ففي بابل استعاد التاجر السامي ومَصْرَفِيُّ الهيكل الصابران سيطرتهما على الهلني المتقلب الفَرَّار، فاحتفظا بالكتابة المسمارية، وأنزلت اللغة اليونانية إلى المكانة الثانية في عالم الأعمال؛ وأفسد التنجيم، والكيمياء الكاذبة، فلك اليونان وعلومهم الطبيعية، وأثبتت الملكية المطلقة الشرقية أنها أقوى من الديمقراطية اليونانية، وانتهى الأمر بأن فرضت صورتها على الغرب نفسه، فأصبح الملوك اليونان والأباطرة الرومان آلهة كما كانوا في بلاد الشرق، وانتقلت نظرية حق الملوك المقدس التي كانت تسود بلاد الشرق إلى أوربا الحديثة عن طريق رومة والقسطنطينية.
وبث الشرق عن طريق زينون نزعته التجريبية والجبرية في الفلسفة اليونانية، كما سرى تصوفه وتقواه من مئات السبل إلى الفراغ الذي تركه تدهور