حسن السياسة أن يتكلموا اللغة اليونانية، وأن يعيشوا كما يعيش اليونان، بل أن يقولوا بضع كلمات طيبة في حق الآلهة اليونانية.
وكانت ثلاث قوى تحمي اليهود من هذا الهجوم القوي على عقلهم وحواسهم! هي ما وقع عليهم من الاضطهاد أيام أنتيوخوس الرابع، وحماية رومة، وسلطان القانون وهيبته لأنه كان في اعتقاد اليهود وحياً منزلاً من عند ألله. وتجمع الأتقياء من اليهود، كما تتجمع الكرات البيضاء من الدم لحماية الجسم من جراثيم الأمراض، وألفوا هيئة من الصفوة المختارة أطلقوا عليها اسم "المتقين". وبدأت هذه الجماعة (حوالي عام ٣٠٠ ق. م) بعهد بسيط قيدوا به أنفسهم أن يمتنعوا عن شرب الخمر زمناً معيناً؛ ثم ذهبوا فيما بعد مدفوعين بسيكولوجية الحرب المحتومة إلى أبعد حدود التزمت، فحرّموا جميع الملاذ الجسمية وعدوها استسلاماً للشيطان واليونان. وعجب منهم اليونان أشد العجب وضموهم إلى زمرة الفلاسفة الزاهدين العرايا العجيبين الذين التقت بهم جيوش الإسكندر في بلاد الهند. وحتى اليهودي العادي نفسه كان يعارض في تزمت جماعة المتقين الشديد ويبحث لنفسهِ عن خطة وسطى بين التزمت والإباحية، ولعله هو وأمثاله كان يستطيع أن يجد هذا الحل الوسط لولا أن أنتيوحوس إيفانيز حاول أن يقحم الهلنية في بلاد اليهود بالإقناع تارة وبالسيف تارة أخرى.
وظلت بلاد اليهود تابعة لمصر حتى عام ١٩٨ حين هزم أنتيوخوس الثالث بطليموس الخامس وضمها إلى الإمبراطورية السلوقية. وكان اليهود قد ملوا حكم المصريين فأعانوا أنتيوخوس ورحبوا باستيلائه على أورشليم وتحريرهم من حكامهم؛ ولكن خلفه أنتيوخوس الرابع لم يرَ في بلاد اليهود إلى أنها مصدر للإيراد؛ وكان وقتئذ يستعد لحروب عوان تتطلب الكثير من الأموال، فأمر اليهود أن يؤدوا إلى خزانة الدولة ثلث محصولاتهم من الحبوب، ونصف ما تُثمره أشجار الفاكهة (١٤). ثم عين جيسن المعروف بتذلله وملقه حاخاماً